ليس تفصيلا ما قاله البارحة رئيس حزب القوّات اللبنانيّة، سمير جعجع. هذا هو بالحرف: "الأزمة الحاليّة دفعتنا للبحث حقّا في تركيبة النظام، وبالتالي علينا التوقّف عند كلّ ما حصل لنصل الى حقيقة واضحة أنّ هذه التركيبة "مش ظابطة" وعلينا البحث بها. لماذا لا يمكننا الذهاب الى تركيبة مشابهة لبلجيكا مثلا؟ المطلوب هو أبعد من لامركزيّة اداريّة، وعلينا البحث جميعا بتركيبة جديدة".
أهميّة هذا الكلام مزدوجة: أوّلا، هو يوضح ما قصدته القوّات عندما أشارت منذ أشهر الى ضرورة "تغيير التركيبة". وعندما يطرح رئيس القوّات بلجيكا نموذجا، فهو يتبنّى الفدراليّة بكلّ شيء، الّا بالاسم. ثانيا، سواء تعمّد جعجع ذلك أم لا، كلامه ردّ ضمني على ما ذكره البطريرك الماروني بشارة الراعي قبل أسبوعين لجهة اعتبار الفدراليّة فكرة "ساقطة"، وأنّ الحلّ ب"اللامركزيّة الاداريّة". فجّر كلام البطريرك موجة اعتراض واسعة في رعيّته، وان حال احترام بكركي دون ترجمتها بكلام عالي السقف ضدّ سيّدها.
ما المطلوب الآن؟ ببساطة، المطلوب توحيد أكبر قدر ممكن من المسيحيّين خلف التوجّه الحيادو-الفدرالي، ثمّ طرحه باعتباره حلّا للجميع، وهو فعلا كذلك، ووفق منطق لا يحتمل اللبس: امّا الفدراليّة من أجل كلّ اللبنانيّين ومعهم، أو ما بعدها، من طرف واحد. المطلوب تاليا ما يلي: 1) أن تستمرّ القوّات بالدفاع عن تغيير التركيبة، ولا بأس بتسمية الفدراليّة باسمها، أمّا وقد صار واضحا أنّ بلجيكا هي النموذج المنشود. 2) أن تلتقي القوّات، مع الكتائب، والأحرار، والجناح الفدرالي في التيّار الوطني الحرّ (الدكتور ناجي حايك ومؤيّدوه) على مشروع واحد، وخارطة طريق، على أن يبقى الباب مفتوحا لاحقا للتيّار الوطني الحرّ ككلّ للانضمام الى المجهود، شريطة فكّ ارتباطه تماما بالسلاح غير الشرعي. 3) أن يتابع الفدراليّون عملهم الدؤوب للترويج للفدراليّة، خصوصا أنّهم نجحوا منذ فترة بتنسيق جهودهم، كما بدا على سبيل المثال لا الحصر أثناء حملة "توقيت جبل لبنان" التي أطلقوها معا. 4) أن يعمل الجميع على حشد أكبر قدر ممكن من الدعم الداخلي والخارجي وراء الفكرة، على أن يترافق العمل "من فوق" مع جهد تنموي لامركزي "من تحت" في المدن والبلدات والقرى من أجل أكبر قدر ممكن من الادراة الذاتيّة لشؤون المواطن اليوميّة.
ربّما تبدو هذه يوتوبيا باعتبار أنّ الحزازات السخيفة بين الأحزاب المسيحيّة مستمرّة الى الساعة. ومع ذلك، الزعامات والأحزاب لا تختصر المجتمع المسيحي، وهو قادر على الضعط عليها من أجل تبنّي فكرة يريدها بكلّ جوارحه. بالحقيقة، المسيحيّون موحّدون خلف معادلة الفدراليّة أو ما بعدها. أقول صادقا أنّني لم ألتق منذ سنتين قوّاتيّا، أو عونيّا، أو كتائبيّا، ليس مع الفدراليّة؛ اللهّم باستثناء من هم مع اعطاء جبل لبنان حقّ تقرير المصير. هناك عصب لا يزال حيّا، ورغبة بالبقاء في لبنان، رغم كلّ الأهوال والمصائب. الجميع لن يهاجر، امّا لأنّه لا يريد، أو لأنّه لا يقدر. هناك كتلة مسيحيّة باقية في لبنان، وهي تريد الفدراليّة، أو ما بعدها. الانقسام المسيحي ليس مشكلة "من تحت" بقدر ما هو صراعات زعامات "من فوق" ينعكس استقطابا مدّمرا وصراعات سخيفة بين حزبيّين لا يعلمون أنّهم جميعا يريدون نفس الشيء. المطلوب اليوم اعطاء هذه الكتلة خارطة طريق واضحة، ثمّ حشد الجهود خلفها. المطلوب، بمعنى آخر، أن يكون التكتيك السياسي اليومي بخدمة استراتيجيا للمدى البعيد. كي نبقى في جبال لا نريد سواها موطنا، وهذا حقّنا.