الحرب والسلم والتقسيم

جوزف بوشرعه

إنّ تاريخ لبنان هو تاريخ شعوبٍ متناحرةٍ، ولم يكن يومًا مسار نضال شعبٍ موحّدٍ. وليست لحظات "الثّورات"، أو "الانتفاضات"، أو "العصيان" سوى تلاقي مصالح هذه الشّعوب، إمّا على ممثّليها مجتمعين (مثلًا "ثورة" 17 تشرين) إمّا على ممثّلي/حكّام الشّعوب الأخرى في الدّولة الواحدة ("ثورة" 2005). ولطالما تجاهلت القراءات الإيديولوجيّة الواقع التّعدّديّ اللّبنانيّ، وأسقطت تصوّراتها النّخبويّة المستوردة على هذا الواقع المضطرب، وكانت النّتيجة تشتّتًا فكريًّا لا مثيلَ له. وما الوضع المزري الذي يعيشه سكّان الكيان اللّبنانيّ إلّا نتاج محاولة البعض تربيع الدّائرة «squaring the circle»، وهي من المشكلات الرّياضيّة التي يستحال حلّها، فكيف إذا انحصر كلامنا على مجتمعاتٍ أبت الحدّ الأدنى من الانسجام الاجتماعيّ منذ تأسيس الكيان اللّبنانيّ سنة 1920. ولكن يصرّ المتوهّمون (أو المستفيدون) أمام هذا الاضطراب على خطابٍ مثاليٍّ، وكأنّه منقولٌ حرفيًّا عن الشّعراء الرّومنطيقيّين، فيما يهوّل بعضهم الآخر من اتّخاذ الخيارات الطّبيعيّة والمحقّة، كاستقلال جبل لبنان.

عواقب الخطاب الشّعريّ

لطالما استُعمل الخطاب الشّعريّ في السّياسة، خصوصًا عند المحطّات التّاريخيّة المفصليّة، ولكنّ نجاحه مشروطٌ بمدى ارتباطه بالواقع، فمكانة الممارسة في علم السّياسة توازي مقام النّصل الأوكاميّ في الأبيستمولوجيا، أي غربال التّفاهات النّظريّة. والعجب في الخطاب الشّعريّ في السّياسة اللّبنانيّة هو الإصرار المرضيّ على التّمسّك بقضايا خاليةٍ من المعنى «meaningless propositions» (طبعًا في الإطار الوضعيّ المنطقيّ «logical positivism»). إذ غالبًا ما تسمع أصحاب هذا الخطاب يردّدون عباراتٍ مغتربةٍ «alienated» مثل: "لبنان الرّسالة"، أو "لبنان وطن الرّسالة"...، وحتمًا إذا قاربتَ العبارة من زاويةٍ تحليليّةٍ/تجريبيّةٍ فالوقائع الحسّيّة تنفي قيمتها (طبعًا إذا سلّمنا بأنّ المقصود بلفظة "الرّسالة" هو أنموذج التّعايش). لذا إنْ كان لبنان رسالةً فلا بدّ أنّها رسالة وداعٍ.

هكذا تدفع أجيالٌ متعاقبةٌ ثمن المراهنات الوحدويّة، فيما تستغلّ الإثنرخيّة «ethnarchy» (أي حكم قادة الإثنيّات) الفوضى السّياسيّة لزيادة ثرواتها وتحصين سلطتها. ويبقى الخطاب الشّعريّ خطابًا "وطنيًّا" و"صحيحًا"، على الرّغم من وعي أصحابه بهذا الإيمان المزيّف «mauvaise foi». وفي هذه الأثناء تستنزف ثروات البلاد المادّيّة والبشريّة، خصوصًا الأقلّيّات، ومنهم الأقلّيّات الدّينيّة، أي الإثنيّات المسيحيّة، ويدفعون إلى الهجرة طلبًا للأمن السّياسيّ والاجتماعيّ، وهربًا من الاعتداءات الطّائفيّة والعنصريّة التي يتعرّضون لها خارج تجمّعهم الأكثريّ في جبل لبنان التّاريخيّ (أو ما يُعرف في الخطاب الشّعبيّ بمناطق "الأطراف")، ولا يمكن فهم دعوة استقلال جبل لبنان إلّا في هذا الإطار. لذلك لا حلّ واقعيّ ومسؤول أمام التّاريخ إلّا العودة إلى خيار الشّعب أو الشّعوب كي تقرّر مصيرها: إن ترغب في الاتّحاد في كيانٍ واحدٍ يحترم نظامه التّعدّديّة المذكورة (أي من الفيدراليّة إلى الكونفيدراليّة)، أم تريد حكمًا ذاتيًّا، وتاليًا الانفصال في كياناتٍ مستقلّةٍ قد تجمعها المصالح الاقتصاديّة عوضًا عن الصّراع الدّمويّ على الحكم. وهنا يزعم البعض أنّ الخيار الأخير على الرّغم من شرعيّته (بصفته صادرًا عن إرادة الشّعب) قد يؤدّي إلى عواقبَ وخيمةٍ تتعدّى حدود الكيان المهترئ.

الصّراع ليس قدرًا

إنّ مطالبة الوطنيّينَ بالاستقلال وإقامة كيانٍ لشعبهم في جبل لبنان لا يعني بالضّرورة إعلان شرارة حرب. فالحرب تكمن في الصّراع على الحكم في الدّولة الواحدة نتيجة خرق العقد الاجتماعيّ المشترك، وإذا أسقطنا عليها مفهوم التّقسيم فستتحول تلقائيًّا نزعة الاقتتال إلى نشدان الأمن والسّلام، أي إمّا تتحوّل الأحزاب القائمة على مفاهيم النّضال في سبيل حقوق شعوبها التي تزعم تمثيلها إلى أحزابٍ ذات أهدافٍ اجتماعيّةٍ، واقتصاديّةٍ وتنمويّةٍ... إمّا تزول مع زوال غايتها الأساسيّة.

خذ مثلًا الأحزاب المسيحيّة كلّها التي تأسّست على مبدأ حماية الإثنيّات المسيحيّة في لبنان أو على المطالبة بحقوقهم، إذ ستفقد غاية تأسيسها فور إعلان الاستقلال، لأنّ الأمن والحقوق سيكونان من مسؤوليّة مؤسسات دولة جبل لبنان، أي الشّعب نفسه. لذلك ستتفضّى هذه الأحزاب إلى التّنافس الدّيمقراطيّ المشروع على برامجَ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ في سبيل تحسين حياة المواطن في دولة جبل لبنان وتأمين رفاهيّته.

حتمًا ليس الصّراع قدرًا، أقله لم يكن كذلك زمن الحكم الذّاتيّ في المتصرفيّة، لأنّ الواقعيّة التي أوجدت متصرفيّة جبل لبنان استُعيض عنها بطوباويّةٍ خطيرةٍ. وهذه الواقعيّة التي دفعت القوى الدّوليّة إلى التّخلّي عن محاولات التّرقيع في القرن التّاسع عشر، خصوصًا بعد بلوغ الصّراع الإثنيّ الطّائفيّ منزلةً أشعل فيها المشرق كلّه، تخلّت عنها الإثنيّات المسيحيّة تحت صدمة المجاعة، فتجاهل معظم دعاة توسيع كيان جبل لبنان العقبات الإثنودينيّة والثّقافيّة التي تعيق بلوغ مواطنةٍ مدنيّةٍ مشتركةٍ. وكأنّ النّخب المسيحيّة في أوائل القرن التّاسع عشر نهلوا من إرسموس بدلًا من أمير مكيافيللي. وعلى الرّغم من الحروب والصّراعات المتتاليّة صمدت هذه الطّوباويّة في مرحلة ما بعد الحرب، حيث اعتُبِرَت الحرب "الأهليّة" مجرّد بركانٍ ثائرٍ حان وقت استثمار أرضه بعد خموده. وقد كان استثمارًا عقيمًا، لأنّ ما توهّمه البعض خمودًا كان في الواقع بركانًا هاجعًا، لكنّهم تجاهلوا نشاطه. هكذا اصطدم المثاليّون بحائط الواقع، فيما حصدت الأجيال ثمار الخطاب الشّعريّ، وما زالت تحصده. وعلى حدّ تعبير جيجك إنّ النّور الذي يراه الإنسان في آخر النّفق قد يكون ضوء قطارٍ يدهسه.