جمهورية جبل لبنان وسؤال "الآخر"

جوزف بوشرعه

عادةً ما تتّهم القوى البرجوازيّة والأرستقراطية دعاة استقلال جبل لبنان بالعنصريّة أو الطّائفيّة، ولكنّهم في اتّهاماتهم السّطحيّة يغفلون (أو يتغافلون) الغاية الأولى لكلّ حركة استقلالٍ في العالم، ألا وهي الرّغبة في تقرير المصير. وتتجاوز هذه الرغبة اتّهامات الكراهية التي يحاول الكثيرون إلصاقها بهذا الحقّ الطبيعيّ. ولكنّ القوى الرّجعيّة في سياق دفاعها عن مصالحها المركزيّة لن تتوانى عن تعكير صفو مياه الوقائع البديهيّة، ويشمل ذلك تشويه كلّ حركةٍ سياسيّةٍ تنادي بالحكم الذاتيّ في جبل لبنان. وفي هذا الإطار ترتفع شكاوى التّطهير الإثنيّ، حيث يزعم أعداء الاستقلال أنّ إنشاء وطنٍ آمنٍ للإثنيّات المسيحيّة في جبل لبنان سيؤدّي حتمًا إلى طرد الذين يختلفون ميتافيزيقيًّا، أو ثقافيًّا، أو إثنيًّا مع معظم المواطنين في هذه الدّولة الحديثة المنشأ. طبعًا هذا افتراءٌ باطلٌ، لأنّ الإثنيّات المسيحيّة لطالما تعايشت مع "الآخر" "The Other" المختلف، كما لا تزال هذه المجتمعات ليبراليّةً إلى حدٍّ كبيرٍ نسبةً لواقع التّمييز الطّائفيّ والعنصريّ في الشّرق الأوسط، خصوصًا في المشرق الذي يعاني من الصّراعات الإثنودينيّة.

ما المقصود بالآخر؟

إنّ "الآخر" جزءٌ أساسيٌّ من معرفة الذّات، لأنّ الذّات لا تعي نفسها من دون الآخر القائم أمامها في العالم. وفي السّياق السّياسيّ يمثّل الآخر جزءًا من تعريف الجماعات عن هويّاتها، حيث يكون هذا الجزء سلبيًّا بالضّرورة. ولكنّ هذه السّلبيّة النّظريّة ليست عائقًا فعليًّا، أي ليس ذلك "الآخر" عبئًا أمام تحقيق تقدّم الدّولة (كما يظنّ العنصريّون والطّائفيّون)، بل إنّه ضرورةٌ ديناميكيّةٌ للمجتمعات. وباستطاعتنا فهم العلاقة الدّيناميكيّة بين الإثنيّات المسيحيّة، بصفتها شعبًا ذا ثقافةٍ منسجمةٍ وحضارةٍ جامعةٍ، وبين المجتمعات الإسلاميّة (أي "الآخر") من خلال اطّلاعنا على التّفاعل الاجتماعيّ زمن الحكم الذّاتيّ في متصرّفيّة جبل لبنان. إذ لم ترَ المجتمعات المسيحيّة "الآخر" المسلم حالةً غريبةً في مناطق تواجدها الأكثريّ، حيث كان لدى هذا الآخر تمثيله الدّيمقراطيّ في المتصرّفيّة. كما لم تتعرّض هذه المجتمعات الإسلاميّة لمضايقاتٍ أو اعتداءاتٍ طائفيّةٍ أو عنصريّةٍ، بل احتُرِمَتْ هويّاتها وملكيّاتها.

وقد صمد هذا الفكر التّسامحيّ حتّى في زمن الحرب اللّبنانيّة وحملات التّطهير الإثنيّ التي تعرّض لها المسيحيّون (أفرادًا وجماعاتٍ)، حيث لم يتعرّض أحدٌ "للآخر" القاطن في "المناطق المسيحيّة". أمّا فعل "صناعة الآخر" "Othering" في التّمثيلات العربيّة الإسلاميّة الحديثة في لبنان فقد اتّخذ منحًى عنصريًا وطائفيًّا بحتًا. وفي هذا الإطار نستطيع فهم تصوير المسيحيّين بأنّهم كلّهم "طبقةٌ برجوازيّةٌ" نالوا امتيازاتهم بسبب تعاملهم مع "الآخر" الأوروبيّ، أو تصويرهم بأكثر الصّور النّمطيّة الهوموفيبيّة "homophobic stereotypes" بأنّهم "مثليّون"، أو محبّو "العربدة والمجون"، وما شابهها من الصّفات التي تقرب من البروبغاندا النّازيّة التي استُعملت لشيطنة "الآخر" الألمانيّ اليهوديّ. ولكنْ ما علاقة هذا الأمر بسؤال "الآخر" في جبل لبنان؟

كلّ كيانٍ سياسيّ تعدّديٌّ بالضّرورة

لا يمكن إنشاء وطنٍ ذي ثقافةٍ وديانةٍ بحتةٍ، فهذا وَهْمٌ فاشيٌّ، كما لا يتماشى مع طبيعة الاقتصاد العالميّ. ولكنّ غياب الحدّ الأدنى من الانسجام الاجتماعيّ، وسقوط مقوّمات المواطنة، واستمراريّة الصّراع بين الجماعات في الكيان السّياسيّ الواحد، حيث تتحوّل كلّ وزارةٍ في الحكومة إلى وزارةٍ خارجيّةٍ تُعنى بالدّفاع عن مصالح شعبها، يشير حتمًا إلى فشلٍ كيانيٍّ يمسّ أساس العقد الاجتماعيّ الذي قامت عليه الجمهوريّة اللّبنانيّة. إنّها نتائجُ طبيعيّةٌ يجب تقبّلها، لأنّ المشكلة ليست في المعطيات بل في الانفعالات التي تأبى القبول بالوقائع اللّامبالية، فتهرب إلى الخطاب الشّعريّ، علّها تجد فيه عزاءها.

لذلك إنّ كلّ كيانٍ سياسيٍّ تعدّديٌّ بالضّرورة. وليست جمهوريّة جبل لبنان التي تطمح إليها الإثنيّات المسيحيّة استثناءً على القاعدة الطّبيعيّة، فالاختلاف السّياسيّ (يمين/يسار، محافظ/تقدّميّ)، والثّقافيّ (ثقافة روميّة/سريانيّة مارونيّة/أرمنيّة...)، واللّغويّ (لغة أرمنيّة/سريانيّة/آشوريّة...)، والمذهبيّ (أورثوذكس/كاثوليك/بروتستانت...)، والدّينيّ (متديّن/ملحد/لاأدريّ...) لا يزال قائمًا في جبل لبنان، وهو عنصرٌ غنيٌّ ومتماسكٌ، حيث يمثّل تعايشًا حقيقيًّا، لا زائفًا (كما الحال في لبنان 1920).

هكذا نفهم أنّ الآخر في جبل لبنان ليس منبوذًا، بل مرحّبًا به، طبعًا شرط احترامه الثّقافة المسيحيّة، والتزامه بالقانون العامّ، وعدم استخدامه العنف وسيلةً للتّعبير عن رأيه المعارض، واحترامه أسس المواطنة، والتزامه بواجباته (بصفته مواطنًا متمتّعًا بالحقوق كلّها). وحتّى لو نشأت في هذه الجمهوريّة الجديدة نزعاتٌ هويّاتيّةٌ عابرةٌ للحدود، كالنّزعة الإسلامويّة، أو القوميّة العربيّة (في شكلها الفاشيّ النّاصريّ)، فالواقع الدّيمغرافيّ في جمهوريّة جبل لبنان سيعيق تفشّي هذه النّزعات المتطرّفة، حيث يبقى وجودها محصورًا في إطار حرّيّة التّعبير، لأنّ الحدود، والأمن الدّاخليّ، والمؤسّسات الدّيمقراطيّة ستصونها الأغلبيّة السّاحقة من المواطنين الذين تجمعهم هويّةٌ واضحة المعالم، ورؤيةٌ متجانسةٌ للتّراتبيّة القيميّة.