ماذا بعد شعار "10452 كلم2"؟

جوزف بوشرعه

قراءةٌ في الوعي الطّوباويّ عند الإثنيّات المسيحيّة في لبنان

منذ الحقبة القروسطيّة المتأخّرة سارت الإثنيّات المسيحيّة في جبل لبنان، بخاصّةٍ الشّعب السّريانيّ المارونيّ، وفق وعيٍ قوميٍّ واضحٍ نحو مساعي استقلاليّةٍ واقعيّةٍ، وقد تحقّقت أهدافهم جزئيًّا عند انتزاع حكمٍ ذاتيٍّ لهم في جبل لبنان من ديكتاتوريّة الأمبراطوريّة العثمانيّة ونظامها الهرميّ الطّائفيّ. ولكنْ بعد صدمة "كفنو" "ܟܦܢܐ" وآثارها التّدميريّة على حضور المسيحيّين عمومًا، ووعيهم الذّاتيّ خصوصًا، دفعت هذه الواقعيّة بعضهم إلى توسيع حدود الجمهوريّة المستقلّة تجنّبًا تكرار مآسي المجاعة المنظّمة، فولد "لبنان 1920". ولكنْ في مرحلة التّخبّطات السّياسيّة في عشرينات وثلاثينات القرن المنصرم بدأت تتغلغل إلى المجتمعات المسيحيّة أفكارٌ طوباويّةٌ أنعشها الرّخاء الاقتصاديّ، فظهرت قوميّاتٌ مصطنعةٌ بين النّخب التي تعمّدت تجاهل الوقائع التّجريبيّة لمصلحة التّكامل التّنظيريّ. هكذا نشأ مفهوم لبنان "لا شرق ولا غرب"، وهو مفهومٌ طوباويٌّ طوّره المثقّفون، وتبنّته الأرستقراطيّة الحاكمة، ثمّ سلّمت به المؤسّسات الدّينيّة. لكنّ هذا الوعي الطّوباويّ اصطدم مجدّدًا بالواقع، وما أخفته النّظريّة أفشته الممارسة. بيد أنّ معظم المسيحيّين، ما عدا بعض الأفراد، احتفظوا بهذا الوعي الطّوباويّ "Utopian consciousness"، بل رفضوا التّخلّي عنه. لذلك عندما تحطّم هذا الوعي تحطّمًا بعد التّطهير الإثنيّ في الجبل، تضعضعت النّخبة، ثمّ دخلت الإثنيّات المسيحيّة في صراعٍ مسلّحٍ أدّى إلى تصدّع مجتمعاتها.

المثقّفون المسيحيّون والوعي الطّوباويّ

إنّ أبرز منظّري هذا التّفكير اللّاهوتيّ هو كمال يوسف الحاج. وطبعًا لا يسعنا في هذا الإطار تفنيد آرائه الفلسفيّة، والحقّ أنّ الفلسفة تؤدّي دورًا محدودًا في تفكيره، لذا الأفضل استبدالها بالفكر اللّاهوتيّ. ويختصر فكره في مفهوم "النّصلاميّة" (وهو مصطلحٌ ولّده من كلمة "نصرانيّة" وإسلاميّة)، حيث يمثّل "لبنان 1920" توليفة هذين "التّيّارين"، تمامًا مثل اتّحاد اللّاهوت والنّاسوت في شخصيّة المسيح. لكنّ الوعي الطّوباويّ جنح أيضًا إلى معارضة هذا "التّصوّر اللّبنانيّ"، وحاول طرح بدائلَ لا تقلّ توهّمًا عنه، فظهر "التّصوّر السّوريّ" الذي طرحه أنطون سعادة، وقد استورده من الفكر الفاشيّ الأوروبيّ، مدخلًا الأساطير العرقيّة بنظريّات العلوم الزّائفة "pseudo-sciences" التي اعتمد عليها النّازيّون (مثل أنّ الجغرافيا أو الطّبيعة تحدّد فكر الشّعوب وتصنّفها هرميًّا). وإلى جانب هذين التّصوّرين أنتج هذا الوعي الطّوباويّ فكرًا أمميًّا بلغ حدّ المقدّس الدّينيّ، حيث عوملت نظريّته المفترضة معاملة علمٍ مثبتٍ، أعني ما دعاه إنغلز "الاشتراكيّة العلميّة" (أي الفكر الشّيوعيّ).

لكنّ هذه التّصوّرات الطّوباويّة لم تسرق مخيّلة الجموع، ما خلا "التّصوّر اللّبنانيّ" الذي استطاع تأمين مكانةٍ خطيرةٍ في الأرستقراطيّة المسيحيّة، حيث تبنّت الأحزاب المسيحيّة المارونيّة خيار الفينقة "Phoenicianism" بوصفه مساومةً وتنازلًا عن الهويّة السّريانيّة ذات الأبعاد المسيحيّة، وذلك بعد أنْ كان الموارنة منذ النّهضة الأوروبيّة ناشري الثّقافة السّريانيّة، بل مبدعين فيها أدبًا، وعلمًا (لدى الموارنة ما يزيد عن عشرين شاعرًا نظم شعرًا دينيًّا ودنيويًّا بالسّريانيّة من القرن الخامس عشر حتّى القرن العشرين).

الأرستقراطيّة المسيحيّة والوعي الطّوباويّ

أدّى تبنّي الفينقة عند الأرستقراطيّة المسيحيّة، وتحوّل هذا التّصوّر المصطنع إلى أيديولوجيا تسيّر أنظمتها الدّاخليّة إلى تضعضع التّفكير الواقعيّ واستبداله برومنسيّةٍ حالمةٍ شبيهةٍ بالتّيّارات الرّومنطيقيّة التي غلبت على تفكير نخب أوروبا منذ القرن التّاسع عشر. ودخل المسيحيّون في الوعي الطّوباويّ سياسيًّا، لذلك عندما وُضِعوا أمام الامتحان المفصليّ في بداية الحرب اللّبنانيّة في السّبعينات، لم ينزعوا إلى التّفكير التّجريبيّ الواقعيّ، كما فعل القبارصة الرّوم حوالي سنةٍ قبلهم، بل أملى الوعي الطّوباويّ عليهم طرح شعار "10452 كلم2"، وتحميل الخارج، أو "الآخر" غير "اللّبنانيّ/الفينيقيّ"، مسؤوليّة الصّراع الإثنو-دينيّ في الدّولة الحديثة المنشأ، وكأنّ الهويّات العابرة للحدود "transnational identities" تفصيلٌ صغيرٌ.

تجاهلت الأرستقراطيّة المسيحيّة الوقائع التّجريبيّة، وأبقت على التزامها الأعمى بالمنطق الطّوباويّ الذي فرضه الوعي الطّوباويّ عليها. لكنّ نتائج هذا الوعي الطّوباويّ لن يحصدها أصحابه إلّا متأخّرًا، وتحديدًا في مرحلة الحرب الأهليّة المسيحيّة والسّياسات الطّائفيّة في التّسعينات.

الكنيسة والوعي الطّوباويّ

تماشى موقف الكنيسة المحافظ من مسألة الكيان اللّبنانيّ مع مواقف الأرستقراطيّة المسيحيّة التي أصرّت على اعتماد الخطاب الطّوباويّ القوميّ الذي بلغ حدّ الشّوفينيّة الفارغة، بعد أنْ أدخلته في سياق ثنائيّة يمين-يسار مزعومة. وإن يكن هذا التّصور السّياسيّ يحمل دلالةً فهو يشير حتمًا إلى تأخّر الوعي "المسيحيّ اللّبنانيّ" عن إدراك طبيعة السّياق الثّقافيّ الاجتماعيّ للإنسان، كما يدلّ على التزامه الأعمى بالتّصوّرات اللّيبراليّة الفرنسيّة اليعقوبيّة "Jacobin" التي تجرّد الإنسان عن واقعه الثّقافيّ الاجتماعيّ (وضمنًا الدّينيّ).

إذ لا وجود لهذا الإنسان المجرّد، إلّا في تصوّرات الفلاسفة، والتّفكير المطلق العقيم الذي يثبت فشله عند مقاربته بالوقائع التّاريخيّة والمعطيات الاجتماعيّة. فالإنسان هو إنسان شيءٍ محدّدٍ، تماما كالوعي، وليست محاولات تجريده سوى مساعٍ طوباويّةٍ مقنّعةٍ يسيّرها تفكيرٌ مسيحيٌّ بدائيٌّ يمكن تتبّع أصوله إلى الفكر الرّواقيّ اليونانيّ ومفهوم المدينة الكونية "Cosmopolis" حيث يكون المرء مواطنا من العالم. ويبدو هذا التّفكير معقولًا، بل منطقيًّا، طبعًا إذا توقّف وعينا عند سنّ البلوغ.

النّهاية المحتومة للوعي الطّوباويّ

لقد أدّى تمسّك الإثنيّات المسيحيّة بهذا النّمط في التّفكير إلى غياب الخطط أو الطّروحات العمليّة الواقعيّة، فقد باتت مخالفة الفكر الطّوباويّ خيانةً عظمى، وكأنّه بات عقيدةً بلغت مكانة المقدّس الدّينيّ "the Sacred". طبعًا، تجلّى ذلك في مرحلة الفراغ السّياسيّ في أواخر الثّمانينات، حيث تجدّد شعار "10452 كلم2" في إطارٍ "كونفدراليّ" (القوات اللّبنانيّة بقيادة سمير جعجع) أو "ميثاقيّ" أي تعويم اتّفاقيّة 1943 (الجيش اللّبنانيّ بقيادة ميشال عون). ومن يملك مطرقةً في السياسة يرى أخصامه مساميرَ، لذا دخل المسيحيّون إثر هذا الأفق الفكريّ المسدود في نزاعٍ مسلّحٍ انطلاقًا من تصوّرهم الطّوباويّ ظاهريًّا، وصراع قادتهم على السّلطة ضمنيًّا. وبقي الوعي الطّوباويّ قائمًا في مرحلة ما بعد الانسحاب السّوريّ بين النّخب المسنّة، فيما أدركت عقمه تلك الأجيال الشّابّة التي ولدت في مرحلة "الاحتلال" (أو بعده) وشهدت التّمييز الطّائفيّ الذي حلّ بها وأهلها، متحرّرةً من التّبعيّة العمياء ما خلا حبّها لشعبها وثقافته.

إذن يبقى السّؤال مطروحًا أمام الشّباب المسيحيّ: ماذا سيقرّر فعله بعد تبدّد الوعي الطّوباويّ بفعل التمييز الطّائفيّ، والاعتداءات العنصريّة على أفراد مجتمعه وممتلكاته، والتّدمير الممنهج الذي يلحق بمؤسّساته العلميّة، والتّعليميّة، والاجتماعيّة، والصحّيّة؟ هل سيكرّر خطيئة الآباء بالسّير خلف منطقٍ طوباويٍّ حالمٍ لم يقدّم له خدمةً سوى تطهيرٍ إثنيٍّ ومعاملةٍ تمييزيّةٍ على المستوى الإداريّ والسّياسيّ؟ أيرضى العيش في سجنٍ يحدّه بسبب انتمائه الطّائفيّ ويعيّره بعدده المتضائل؟ لا أعتقد أنّ الصّوت الشّاب في الإثنيّات المسيحيّة قد أطلق صيحته المدوّيّة والحاسمة، وإنْ أطلقها يومًا، فحتمًا سيطلقها متحرّرًا في جبل لبنان.