حتّى لو وضعنا جانبا أحقاد الحرب اللبنانيّة وما تلاها خلال حقبة الاحتلال السوري، تبقى المصالحة مع نظام بشّار الأسد مستحيلة بسبب سجلّه منذ العام 2005. للتذكير: النيترات التي انفجرت بمرفأ بيروت جاءت اليه أصلا في طريقها الى سوريا كي يستعملها بشّار لقصف شعبه. وهذا، بالمناسبة، ليس رأيا شخصيّا: من يتابع التحقيقات التي أجرتها الصحافة العالميّة عن الموضوع، سيقع على خلاصة مشابهة بدل المرّة مئة. بشّار الأسد، بهذا المعنى، مسؤول مباشرة عن تدمير عاصمتنا، وازهاق أرواح أكثر من 220 ضحيّة ذات يوم مشؤوم من صيف 2020.
للتذكير أيضا: الفيديو الذي يظهر ميشال سماحة يسلّم متفجرّات الى من ظنّه مستعدّا لتفجيرها بالشمال لا يزال موجودا على يوتيوب. بهذا الفيديو يقول سماحة بالحرف أن "بشّار هيك بدّو"، وأنّ الرئيس السوري على دراية بالعمليّة، والمسؤول الأمني السوري، علي مملوك.
ولا ضرورة طبعا للتذكير بأنّ سوريا بشّار الأسد هي الجسر البرّي الذي ترسل ايران من خلاله الأسلحة للحزب المسلّح بلبنان. تاليا، الأسد مسؤول شخصيّا عن كلّ ما فعله هذا الحزب، ويفعله، بدعم مباشر منه.
وبالحقيقة، يمكن لتعداد جرائم بشّار الأسد بحقّ لبنان في السنوات الأخيرة فقط أن يستمرّ طويلا: اقتصادنا المنهك دعم اقتصاد بشّار المنهار، قبل أن ينهار بدوره؛ حدودنا مفتوحة على التهريب مع سوريا؛ الكبتاغون تصدير مشترك؛ وهكذا.
بتاريخ لبنان أكاذيب كبيرة ابتلعها من يعطّلون عقولهم لمصلحة سرديّات زعمائهم. ولكن لا كذبة أكبر من هذه: أنّ سوريا انسحبت عام 2005، وأنّ مشاكلنا معها انتهت، وحان وقت المصالحة. بالحقيقة، المصالحة مع نظّام الأسد مستحيلة.
هي مستحيلة، مجدّدا، حتّى لو وضعنا أحقاد الحرب جانبا. ولكنّنا أساسا، وفي ما يتعلّق ببشّار الأسد بالذات، غير مستعدّين لوضعها جانبا.
بيننا وبين نظام الأسد دماء شعبنا بالأشرفيّة عام 1978.
بيننا وبين نظام الأسد دماء شعبنا بزحلة عام 1980.
بيننا وبين نظام الأسد دماء بشير الجميّل – فتانا الأغرّ، بطل لبنان – عام 1982.
بيننا وبين نظام الأسد تهجير شعبنا من الجبل عام 1983. تلك الحرب القاصمة للظهر مجرمها الأوّل حافظ الأسد، قبل أي مجرم آخر، محلّي أو اقليمي. قرانا بالجبل دفعت ثمن تصميمه الموتور على اسقاط اتفاقيّة 17 أيّار، كي يبقى لبنان بقبضته.
بيننا وبين نظام الأسد العبوات الناسفة التي حصدت الناس كالفراشات في الشرقيّة.
بيينا وبين نظام الأسد قصف خزّانات الغاز بالدورة عام 1989 – شعاع الانفجار امتدّ آنذاك من ساحل المتن الى أعاليه، ووصف يومها بأنّه انفجار نووي صغير.
بيينا وبين نظام الأسد دماء الكتيبة 102 من اللواء العاشر في الجيش اللبناني. مقاتلوها الشجعان حاربوا لآخر رجل دفاعا عن الشرقيّة، قبل أن يصفّيهم السفلة، انكشاريّو الأسد واحدا واحدا، ذات يوم أسود في ضهر الوحش، عام 1990.
بيننا وبين نظام الأسد مأساة الشيخ بطرس خوند، والمئات من رجال لبنان الذين اختفوا في الزنازين السوريّة. ماذا فعلت بآبائنا، وأخوتنا، يا طاغية دمشق، "يا حوتا لفظته البحار، ويا وحشا من وحوش البراري" ؟
نادرا ما أجرم طاغية، بحقّ شعب، بقدر ما أجرم آل الأسد بحقّ لبنان. مرّة بعد مرّة، عبّر رؤساء وزراء اليابان للكوريّين عن ألمهم العميق لما اقترفه الجيش الياباني بحقّ الشعب الكوري خلال الحرب العالميّة الثانية. اللبنانيّون طبعا لم يحصلوا من نظام الأسد سوى على التقريع لتمرّدهم على معادلة "شعب واحد في دولتين"، السخيفة كمروّجها. وبالعمق، لن تصطلح العلاقات اللبنانيّة-السوريّة قبل أن تعتذر سوريا عن سجّلها الأسود المرعب في لبنان، وقبل أن يتخلّى العقل السوري المشوّش مرّة واحدة والى الأبد عن سرديّة سوريا "الطبيعيّة" التي اقتطع الفرنسيّون جزءا منها هو لبنان؛ لا شيئا طبيعيّا في هذه المنطقة من العالم سوى رغبة اللبنانيّين بالانعتاق من الكابوس السوري، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.
لذلك، لا يهمّ كثيرا من يأتي ويذهب الى دمشق، ومن يكحّل عينيه برؤية سيادته. المصالحة مع عدوّ لبنان الأوّل مستحيلة. ومهما تقاطرت قوافل الخونة على طريق الشام، في مزابل التاريخ أمكنة تتسّع لهم جميعا.