تعيد افتتاحيّة ابراهيم الأمين في "الأخبار" اليوم الجمعة (بعنوان "من هو المجنون الذي يعمل على عزل المقاومة؟") انتاج ستايل بالتعليق السياسي لا يحترفه أحد من كتّاب الثنائي الشيعي كالأمين نفسه. يمكن اختصار عناصر هذا الستايل بثلاثة: 1) تهديد الخصوم بالقتل. 2) تزوير الوقائع لمصلحة البروباغاندا. 3) غياب أي فكرة يمكن مناقشتها جديًّا.
قبل أيّام، نشرت "الأخبار" صورة لجهاد أزعور مع الشهيد محمّد شطح. الرسالة لم تخطئها عين. اليوم يتابع الأمين تهديد الخصوم اذ يكتب عن أزمة الاستحقاق الرئاسي: "هناك مسؤوليّة أساسيّة تقع على عاتق شخصين: الأوّل، جبران باسيل وهو اليوم في موقع مماثل لموقع وليد جنبلاط في 5 أيّار 2008، عندما قال لاحقًا إنّه تحمّس وأخطأ، والثاني هو جهاد أزعور، الذي تحوّل إلى فؤاد سنيورة ثانٍ، وقبل أن يكون فتيل الانفجار!". استعادة أحداث أيّار 2008 ليست بريئةً، ولا هي مزحة. ولا تزال الذاكرة اللبنانيّة تحفظ كيف تعاطى الحزب المسلّح آنذاك مع وليد جنبلاط وفؤاد السنيورة: اجتاح الجبل حيث معقل الأوّل؛ حاصر السرايا الحكوميّة حيث الثاني؛ وأغرق لبنان بالدماء، وبميني-حرب أهليّة سقط فيها العشرات. لم يكتب ابراهيم الأمين هذه المرّة لجبران باسيل وجهاد أزعور ووليد جنبلاط أن "تحسّسوا رقابكم"، ولكنّ التهديد بالقوّة العارية الذي تحويه كلماته شديد الوضوح.
يكتب ابراهيم الأمين أيضًا: "بعد اندلاع الأزمة السوريّة، تصرّفت المقاومة من موقع المعني حفظ الوجود المسيحي في المنطقة، وساعدت إلى أبعد حدود في منع عمليّة تهجير واسعة كان يعدّ لها الآخرون". هنا يلاقي التزوير، التهديد بالعنف. بالحقيقة، لم يخدم الأصوليّة التكفيريّة السنيّة بالمنطقة شيء بقدر ما خدمتها عقود خمسة من حكم آل الأسد لسوريا. أيّ جماعة تتعرّض لما تعرّض له أهل السنّة في سوريا (ولبنان) على يد جماعة طائفيّة أخرى ستفرز متطرّفين دون ريب، سيّما أنّ العنف الراعب، والسلبطة الطائفيّة الأقلويّة الوقحة، ترافقت مع سوء ادارة اقتصاديّة، بدأها حافظ الأسد، وحوّلها بشّار الى "اقتصاد محاسيب" (Crony Capitalism) جعل من رامي مخلوف مليارديرا، بينما قبع سنّة الأرياف بالفقر، وانسداد الأفق. بقاء بشّار الأسد بالسلطة يعني بالجوهر شيئًا واحدًا هو التالي: الظروف الموضوعيّة التي فرزت الحركات التكفيريّة السنيّة ستظلّ تتحرّك في عمق المجتمع السوري، وهو قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار عند أي محطّة مستقبليّة. أن يكون حزب اللّه ساهم مباشرةً بابقاء بشّار الأسد بالسلطة يعني أنّه ساهم بشكل غير مباشر بالحفاظ على الشروط الموضوعيّة لابقاء الأصوليّة التكفيريّة حيّةً بسوريا ولبنان، ثمّ يأتي ابراهيم الأمين، باسم هذا الحزب وعنه، ويقول للمسيحيّين أنّنا "حميناكم". شكرًا يا فتى مارون الأغرّ.
وأمّا غياب الفكرة، فهو فاضح. أزعم أنّني أتابع مقالات ابراهيم الأمين منذ عقود، من "السفير" الى "الأخبار". هو بالعمق يكتب مقالًا واحدًا لا يملّ من تكراره، جوهره التخوين، والوعيد، والتهديد، والـ"قادمون إليكم". لا أذكر، بالمناسبة، أنّني وافقت مرّةً على مقال للراحل جوزف سماحة، لكنّني تعلّمت من أفكاره الكثير. يمكن لمهتمّ بالسياسة أن يتعلّم من خصمه، وأن يحترمه على خلاف. المشكلة مع ابراهيم الأمين أن لا أفكارًا بمقالاته كي نقاربها ذهنيًّا، قبولًا أو رفضًا. وأبعد من أزمة أفكار عنده شخصيًّا، هي أزمة أفكار عند فريقه ككلّ. وبالحقيقة، قدّمت المارونيّة السياسيّة بالجمهوريّة الأولى نموذجًا له ما له، وعليه ما عليه، ولكنّه كان يحمل بطيّاته مشروعًا ليبراليًّا قابلًا للتطوير لو لم تدهمه الحرب. حطمّ حافظ الأسد المارونيّة السياسيّة بالحرب، ومنعت الشيعيّة السياسيّة رفيق الحريري من اعادة انتاجها بعدها، وصولًا الى ... ماذا تحديدًا؟ كيف ندير اقتصادنا بظلّ الحرب الى الأبد مع اسرائيل والغرب؟ كيف نبني دولة وسط غابة السلاح غير الشرعي؟ كي نحافظ على علاقات طبيعيّة مع دول الخليج، ونحن ملتصقون بإيران؟ كيف ندير العلاقات بين المكوّنات الطائفيّة لمجتمعنا وسط تغوّل أكبرها بالسلاح؟ يمكن اختصار كلّ هذه الأسئلة بواحد: فهمنا، يا شيعة لبنان، أنّكم الأقوى فيه. كيف تنوون حكمه؟
كلّ صراخ ابراهيم الأمين منذ عقود، وكلّ ضجيجه، مصدره واحد: ادراك صاحبه، وفريقه، أنّهم لا يملكون جوابًا مقنعًا على هذا السؤال. ولطالما كانت البلطجة الفكريّة المكمّل الضروري للخواء الفكري.