لمشكلة اللبنانيّين مع سوريا روافد ثلاثة: أوّلا، السوريّون لا يعترفون الى الساعة باستقلال لبنان. أكتب السوريّون تعميما عن قصد، لأنّني لم ألاحظ على مدى السنوات في هذه النقطة بالتحديد فرقا كبيرا بين مواليهم ومعارضيهم. ولأنّ ما لا ينبغي أن يمرّ مرور الكرام بلبنان يمرّ فعلا، لم يتوقّف أحد عند ما قاله بشّار الأسد بعد استقباله حليفه ميشال عون قبل أيّام بسوريا لجهة زعمه أن: "لا يمكن لسوريا ولبنان النظر لتحديّاتهما بشكل منفصل عن بعضهما". في هذا الزعم، يعيد الابن انتاج بشكل موارب مقولة الأب عن أنّ لبنان وسوريا "شعب واحد في دولتين". يعني هذا أنّ المرض الذهني السوري القديم بالنسبة للبنان لا يزال هو هو؛ وان كانت الحرب الأهليّة المستمرّة في سوريا منذ العام 2011 خفّفت نسبيّا من قدرتها على تخريب لبنان، فانّ النيّة بتخريبه لا تزال هي هي، وستبقى كذلك ما بقيت خرافة أنّ "سوريا" تعني بالحقيقة "سوريا الطبيعيّة" أو "الشام" أو "الهلال الخصيب"، أو أي تطيّر مشابه، وأنّ من حقّ حكّام دمشق تاليا التدخّل بأمور الأردن، وفلسطين – سوريا الجنوبيّة، كما أسماها مرّة عبد الحليم خدّام – وبطبيعة الحال، لبنان.
وأمّا المشكلة الثانية، فلها علاقة بجرائم الجيش السوري في لبنان طوال ثلاثة عقود راعبة بين 1976 و 2005. سلسلة موبقات جيش السوريّين عندنا تقشعرّ لها الأبدان، ومنها: 1) القصف عشوائي للأحياء السكنيّة – فكّر بالأشرفيّة، وفرن الشبّاك، وخصوصا، عين الرمّانة. 2) المجازر بحقّ المدنيّين – فكّر بالتبّانة، والقاع. 3) التطهير الاثني – فكرّ بالشوف-عاليه، حيث تدخّلت سوريا بالمعركة من خلال رجال "أبو موسى"، والقصف، والدعم العسكري المفتوح. 4) الاغتيالات السياسيّة. 5) تحويل البقاع الى سهل كبير لانتاج المخدّرات وتصديرها. الاعتذار ليس من شيم الثقافة السياسيّة العربيّة، ولكنّ السوريّين – نعم، السوريّون، لا فقط نظامهم – يدينون لنا باعتذار كبير، وعلني، لأنّ من اقترف كلّ ما سبق اقترفه باسمهم. ومن المحال نفسيّا أن تستقيم العلاقات اللبنانيّة – السوريّة يوما ما، قبل أن يأتي الى سوريا نظام يقرّ بما فعله الأسدين باسمها في لبنان، ويعتذر.
المشكلة الثالثة هي مشكلة اللاجئين. لا خلاف أنّهم بشر يستحقّون الاحترام بصفتهم هذه. ولا خلاف أيضا أنّ جذر المشكلة هنا هو النظام السوري الذي اقتلع الملايين من أرضهم في سوريا بحملة تطهير عرقي لا تزال مستمرّة. يبقى أنّ هذه المأساة ليست ذنب اللبنانيّين، وأن عبء الوجود السوري في لبنان لا يطاق بأيّ معيار. الأرقام لا تكذب، ومن ينتبه الى نسبة المرتكبين السوريّين في جرائم القتل والسرقة بلبنان يفهم ما المقصود بهذه ال"لا يطاق"، لا فقط بالنسبة لاقتصادنا، بل أوّلا بالنسبة لأمننا الاجتماعي.
باختصار، مشكلتنا مع سوريا عويصة فعلا: رفضت أنظمتها منذ الاستقلال الاعتراف بحقّنا به، واستسهلت لعبة اقفال الحدود أمام صادرتنا للعالم العربي، أو فتحها للأسلحة القادمة منه الينا، لتركيعنا. لاحقا، احتلّنا نظام سوري وقتل منّا عشرات الآلاف، قبل أن يدفع صوبنا موجة نازحين باقين عندنا دون أفق لرحيلهم، بينما نرحل نحن الى المغتربات.
ولأنّ قسما كبيرا من السوريّين سيّئ النيّة تجاه لبنان، يتمّ شيطنة الشكوى اللبنانيّة، وتبسيطها، عبر وصمها ب"العنصريّة". أي متابع لتلعيقات السوريّين على مواقع التواصل الاجتماعي سيقع على هذه التهمة بدل المرّة ألف. وبحسب السرديّة التي يتوافق عليها معارضون وموالون في سوريا، لا مشكلة بين البلدين سوى أنّ اللبنانيّين يعاملون السوريّون بتعال ناتج عن عنصريّة كامنة فيهم، وتطفو الى السطح عند أوّل مناسبة.
بهذا المعنى، قدّمت "الاعلاميّة" نضال الأحمديّة خدمة مجّانيّة لكارهي لبنان عندما زعمت بحلقة تلفزيونيّة أنّها تلتقي سوريّين لا يعرفون معنى "شوكولامو". لن نسأل لماذا تتمّ استضافتها أصلا، لأنّ الجواب معروف: السكوب الرخيص، والرايتينغ. ولكنّ متابعة ردّ الفعل السوري على ما قالته يؤكّد أنّ الأحمديّة ظهّرت بالظبط صورة اللبناني المتشاوف، السخيف، والعنصري، التي يريد سوريّون من مختلف المشارب تعميمها في عالم العرب. ولو باتت هذه صورتنا فعلا، كيف يمكن انا أن نطلب من أيّ كان أن يفهم جوهر مشكلتنا مع جيراننا الكرام؟
وجوهر مشكلتنا مع السوريّين أنّنا لسنا منهم، وأنهمّ لا يريدون أن يفهموا أنّنا لسنا كذلك. وبمجرّد أنّهم ليسوا لبنانيّين، هم شعب أجنبي، وسوريا دولة أجنبيّة، شاء حظّنا الزاهر أن تكون جارة لنا. ولا يعني هذا أنّنا أفضل أو أرقى من السوريّين بصفتنا هذه، وبصفتهم هذه. نسخّف قضيّتنا، ونخدم أعداءها، لو فكّرنا أو تكلّمنا وفق هذا المنطق. البشر بشر، متساوون بقيمتهم الأخلاقيّة، بغضّ النظر عن جنسيّتهم، أو عرقهم، أو جندرهم، أو خيارهم الجنسي. تحصيل الحاصل أن نقول أن لا فارقا "عرقيّا" بيننا والسوريّين. بالمقابل، ربّما يكون الفارق الحقيقي بين الشعبين هو هذا: سخافة نضال الأحمديّة لا تعبّر عن كيف يفكّر جلّ اللبنانيّين تجاه السوريّين؛ ولكنّ حافظ الأسد، عندما أذلّنا، لعلّه أثلج قلوب عموم السوريّين، لا قاعدته العلويّة فقط.