قبل أيّام، وبعد أن صار واضحا تلاقي معظم القوى السياسيّة اللبنانيّة على رفض تسليم رئاسة الجمهوريّة للحزب المسلّح عبر سليمان فرنجيّة، سأل ابراهيم الأمين، برقيّه المعقود: "من هو المجنون الذي يعمل على عزل المقاومة؟".
بسرعة، التقط نجوم الممانعة على مواقع التواصل اشارة دكتيلو جريدة "الأخبار"، وعمّموها. الشيخ علي جابر كتب:"الذي يفرحون واهمين أنّهم يحاصرون مكوّنا أساسيّا في البلد وهم الشيعة، ننصحهم أن يعودوا الى رشدهم لأنّنا لا نحاصر، ونحن ضنينون بالبلد، واذا لم نذهب الى الحوال والتفاهم فما ينتظرنا خطير ولن ينفعكم الأميركي". من جهته، خاطب صادق النابلسي "معسكر العداء للمقاومة" بقوله "أنتم لا تحاصرون الّا أنفسكم"، فيما تفوّق حسن الدرّ على نفسه بالاسفاف من خلال اقحام ميول جهاد أزعور الجنسيّة المفترضة بالموضوع، وهي لا تعني سواه.
بالحقيقة، ليست المرّة الأولى التي يطفو على السطح شعار "الحصار". في العام 2005، شعر جلّ اللبنانيّين أنّ الوقت حان لحياة سياسيّة طبيعيّة بعد عقود من الحروب والاحتلالات الأجنبيّة، وطالبوا عبر 14 آذار بحصريّة السلاح بيد الدولة؛ جاء الردّ أنّ المسألة كلّها مؤامرة أميركيّة و"حصار" على المقاومة. وما بين 2019 – 2020، انهار اقتصاد البلاد بسبب فساد نخبة حاكمة الثنائي حاميها الأوّل، ونبيه برّي رمزها. جاء الردّ مجدّدا على شكوى اللبنانيّين أنّ انهيار الاقتصاد سببه "الحصار الدولي" المفترض، دع عنك أنّ المساعدات الدوليّة المستمرّة تمنع الى الساعة التحلّل التام لجثّة الدولة اللبنانيّة.
كيف يمكن تفسير مركزيّة فكرة "الحصار" بذهن الممانعة؟ لوهلة، قد يكون الجواب أنّ محرّك الكلام الدائم عن"الحصار" سينيكيّة فريق لا يملك حلّا واحدا جديّا لمشاكل اللبنانيّين، وهو من كبار المتسبّبين بها أصلا. أي شيء أكثر فائدة من تعليق مسؤوليّته عن الأزمة على شمّاعة "الحصار"، و"المؤامرة الدوليّة"، و"يهود الداخل"، و"السفارات"، وسائر المعزوفة المعروفة؟ يبدو لي، بالمقابل، أنّ الممانعة مقتنعة فعلا بما تقول، وأنّ المسألة مسألة تشويش ذهني بنيوي، وانفصال عن الواقع، قبل أن تكون مسألة استخدام سياسي لشعار يهدف لتضليل القواعد الحزبيّة.
والحال أنّ التطرّف الايدولوجي لا يحفل بالوقائع. كان أدولف هتلر قابعا في مخبأه بالبونكر، بالأيّام الأخيرة للرايش الثالث، وظلّ يحرّك فرقا عسكريّة غير موجودة الّا على على الورق، ويضع خططا لاعادة بناء برلين بعد الحرب. قالت سكريتيرته ترودل جونغه عنه لاحقا انّه عندما استدعاها لطباعة خطابه الأخير، توقّعت منه لحظة حقيقة، أو تفسير للهزيمة، أو اعتذار عن المآسي التي عاشتها ألمانيا، ولم تقع على غير الخطاب المكرّر عن مؤامرات اليهود، وما شاكل. تسوية برلين بالأرض، خراب أوروبا، ودمار ألمانيا، لم تكن كافية ليغيّر هتلر قناعاته؛ نعلم أنّه قضى متمسّكا بكلّ واحدة منها.
هناك شيء من هذا يحصل اليوم. الممانعة تعيش ذهنيّا بعالم ذئبي حيث الحرب دائمة، والمؤامرات مستمرّة، والجميع مقتنع بصوابيّة خياراتها، ما عدا متآمرين يحرّكهم الخارج. وعندما يحلّ هذا النوع من الايديولوجيا مكان الواقع، تنتفي امكانيّة السياسة كحوار، ويأخذ المنطق اجازة. لن تتغيّر هذه المعادلة قبل خروج الممانعة ذهنيّا من البونكر حيث تقيم؛ باستثناء طبعا أنّ الرومنطيقيّين المتطرّفين يفضّلون التراجيديا على السياسة، والعنف الأهلي على اعادة النظر بالمسلّمات لحظة انفضاحها كخرافة.