لم يضطرّ الفدراليّون للمدافعة عن أنفسهم عندما اّتهمهم أمين حطيط بالعمالة لاسرائيل في حلقة برنامج مارسيل غانم الأخيرة لأنّ من دافع عنهم ورفض تخوينهم هو خصمهم بالسياسة، عنيت الدكتور فارس سعيد. رفض التخوين، رغم الخلاف، رقيّ ليس غريبا عن الدكتور سعيد؛ وهذا الرقيّ الذي فيه سبب من الأسباب العديدة التي تدفعني كلّ مرّة لرفض التهجّم عليه في جلسات النقاش مع أصدقاء فدراليّين تستفزّهم مواقفه. لم أكن بحاجة لتلك الحلقة كي أحترمه؛ وقد احترمته أكثر بعدها.
يحذّر الدكتور سعيد من طرح مسألة النظام قبل أن يسلّم حزب اللّه سلاحه للدولة اللبنانيّة، لأنّ السياسة موازين قوى، وهي بالضرورة مختلّة لصالح الطرف المسلّح في لبنان. تاليا، أي تفاوض على النظام بظلّ السلاح خطر جدّا. ينصح الدكتور سعيد تاليا بتأجيل مسألة النظام على أن تطرح على بساط البحث مجدّدا لو أصرّ أصحابها عليها بعد حلّ مسألة السلاح.
والحال أنّ الدكتور سعيد مصيب لجهة التذكير بمحاذير طرح مسألة النظام بالظروف الحاليّة. بالحقيقة، يمكن أن يضيف للدكتور سعيد الى مسألة السلاح قضيّة الدعم الخارجي: لحزب السلاح طرف اقليمي قوي يدعمه تماما؛ بالمقابل، الدعم الاقليمي أو الدولي للطرف المواجه للسلاح متذبذب بالحدّ الأدنى، وأحيانا، مفقود تماما، كما بدا بالموقف الفرنسي من المسألة الرئاسيّة.
يبقى أنّ تحليل الدكتور سعيد لا يأخذ بعين الاعتبار مسألتين أساسيّتين تؤثّران على موازين القوى بعد أكثر من معطى السلاح، والدعم الخارجي، عنيت المسألة الديموغرافيّة، من جهة، ومسألة المعنويّات، أو المعطى النفسي، من جهة أخرى.
ديموغرافيّا، مسار شعبنا انحداري. نحن قبل عشر سنوات أكثر ممّا نحن عليه اليوم. وغالب الظنّ أنّنا اليوم أكثر ممّا سنكون عليه بعد عشر سنوات. لو افترضنا أنّنا أجّلنا مسألة النظام عشرين عاما بانتظار تسليم الحزب سلاحه - هل سيسلّمه، بالمناسبة؟ - كم سيبقى منّا بعد في لبنان كي نتفاوض على النظام أصلا؟ ولنفترض أنّ الأقليّة الكبيرة التي هي نحن اليوم صارت أقليّة صغيرة (عشرة بالمئة أو أقلّ)، من سيكترث عندها لما نريد أو لا نريد عندما تطرح مسألة النظام، وهي آتية لا محالة، لأنّ الأمور لا يمكن أن تستمرّ الى ما هي عليه للأبد؟
تتكامل المسألة النفسيّة مع المسألة الديموغرافيّة وتعمّقها. شعبنا محارب وصلب، ولكنّه يحارب منذ قرنين تقريبا. الصدامات تكرّرت من 1840، الى 1845، و1860، و1958، و1975-1990، وصولا الى موجة الاغتيالات السياسيّة والانهيارات الكبرى منذ العام 2019. المكوّن المسيحي طبقة وسطى كبيرة لم تعد ترى أفقا للمأزق الحالي، وترحل لأنّها قادرة علميّا على الاندماج بسرعة بدورة الاقتصاد العالمي، ولأنّ شيئا لا يوحي بأنّ لمسار الجلجلة الطويل نهاية. أضف الى ذلك صراعات القيادات المارونيّة وسياساتها الصغيرة التي لا تنتهي حتّى بمواجهة أكبر الأعاصير وأعتاها. من سيبقى منّا هنا بعد عقدين، والحال هذه؟ كثر يهاجرون لا لحاجة اقتصاديّة ماسّة، بل يأسا وقرفا ولأنّهم لا يجدون جوابا مقنعا على سؤال بديهي هو التالي: "حسنا. لماذا نبقى؟".
في العام 1975، لم تكن موازين القوى العسكريّة لصالح شعبنا. أعلم أيضا من قراءة أرشيف ديبلوماسي عن الحرب انكبّ عليه منذ سنتين تحضيرا لكتابي الثاني أنّنا كنّا لوحدنا مطلعها، وأنّ مناشدتنا المتكرّرة لطلب المساعدة بين 1969 و1975 لم تلق جوابا من الأصدقاء المفترضين. مع ذلك، صمدنا لأنّ الديموغرافيا سمحت بالصمود، ولأنّ المعنويات لم تكن منهارة، ولا شعبنا متعبا، فضلا طبعا عن نوعيّة القيادة السياسيّة في تلك المرحلة.
اليوم المعطى الديموغرافي تغيّر، وكذلك المعطى النفسي. خوفي، لو بقي الستاتيكو على ما هو عليه لعقدين بعد، أو ثلاثة، بانتظار حلّ مسألة السلاح، أن ينهار وضعنا تماما. لو حصل ذلك، لن نكون أوّل جماعة مختلفة دينيّا تسحقها سياسات الأمّة الكريمة، ولنا بمسيحيّي العراق، أو سوريا، أو يهود العالم العربي، أو بهائيّي ايران، أو أحمديّي باكستان، أو مسيحيّي البيافرا، عبر بليغة.
لهذا لا نستطيع أن ننتظر.
ما نريده شديد الوضوح: أن نضمن نحن أمن مناطقنا؛ وأن نحدّد نحن لها مساراتها الاقتصاديّة والتنمويّة والسياسيّة، لا أن يفرض كلّ ذلك علينا باسم التعايش في نظام مركزي جلّ ما يفعله تحويل الغالبيّة الديموغرافيّة الى غالبيّة سياسيّة دائمة، مع تحويل الأقليّة الديموغرافيّة الى أقليّة سياسيّة دائمة، كما هو الحال عليه بكلّ بلاد – وأعني كلّ بلاد، بدون استثناء واحد – تتجاور فيها غالبيّة مسلمة، مع أقليّة غير مسلمة، عدا لبنان.
الاحترام للدكتور سعيد واجب، وملاحظاته جديرة بالتوقّف عندها والتفكير بها. ولكن ما يمكن أن نحصل عليه اليوم لو طرحنا مسألة النظام لن نحصل عليه بالضرورة غدا. لهذا – تكرارا – لا نستطيع أن ننتظر.