هناك سرديّة شائعة في لبنان مفادها أنّ اتّفاق الطائف عزّز وضع المكوّن السنّي فيه. وهناك سرديّة أخرى تزعم أنّ اعادة النظر بالطائف بالضرورة موجّهة ضدّ السنّة. بالحقيقة، السرديّة الأولى غير دقيقة، والثانية نفاق تامّ. لن ينتج عن ترويج هذه السرديّة كما تلك بالأوساط السنيّة سوى مزيد من التشويش الذهني الذي يفاقم أزمة الطائفة المستمرّة منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري عام 2005.
معروف أنّ رئيس الجمهوريّة لم يعد بعد "الطائف" قابضا على السلطة التنفيذيّة كما كان قبله. ما لا يقال بما يكفي أنّ المستفيد الأوّل من سحب الصلاحيّات الرئاسيّة ليس موقع رئاسة الحكومة بل مجلس الوزراء ككلّ. ثمّ أنّ المغزى الحقيقي للبند الثامن من فقرة الصلاحيّات المعطاة لرئيس الجمهوريّة بحكم الدستور ليس تفصيلا. ينصّ هذا البند أنّ رئيس الجمهوريّة "يصدر بالاتّفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة". المهمّ بهذه النقطة أنّ الدستور لم يلزم الرئيس بوقت معيّن للقبول بالتشكيلة. ويعني هذا ببساطة أنّ رئيس الحكومة ليس قادرا على تشكيل حكومته دون اعطاء رئيس الجمهوريّة حصّته كممثّل لطائفته بالنظام. وبمجرّد أن يحصل الرئيس على هذه الحصّة، يصبح من الضروري أن يحصل رئيس مجلس النوّاب على حصّته بدوره، وكذلك الزعيم الدرزي الأقوى. يجعل كلّ هذا من الحكومة اللبنانيّة نوعا من "لويا جيرغا" في بيروت، السلطة فيها موزّعة بين الجميع، أي غير موجودة عمليّا بيد أحد. بالمقابل، بات واضحا في السنوات الأخيرة أنّ رئيس مجلس النوّاب يقفله أو يعيد فتحه متى أراد. باختصار، واقع الحال أنّ السلطة التنفيذيّة للجميع، في حين أنّ قبضة رئيس مجلس النوّاب على السلطة التشريعيّة حديديّة، وتخصّه وحده. كيف تستقيم مقولة أنّ "الطائف" عزّز وضع السنّة، والحال هذه؟
أبعد من الدستور وتشكيل السلطة، تتالت الويلات على المكوّن السنّي منذ استتبت الأمور لنظام "الطائف" بعد الحرب. وربمّا يصحّ القول أنّ زمن الحزن السنيّ بلبنان لم يكن طويلا وقاسيا يوما كما كان منذ سنوات ثقيلة تخلّلها الغياب المدّوي لرفيق الحريري، واجتياح بيروت عام 2008، ومحاصرة حكومة فؤاد السنيورة، وتطويق سعد الحريري سياسيّا، ثمّ احراجه حتّى اخراجه، وصولا اليوم الى الاختراق الممانع المزدوج للمكوّن السنّي: من فوق، عبر قسم وازن من النوّاب التابعين لمحور الممانعة الذين صوّتوا مؤخّرا لسليمان فرنجيّة؛ ومن تحت، عبر سرايا المقاومة وشبكات التهريب التي تتحرّك بغير منطقة سنّيّة، بحماية ممانعة.
هناك ما هو أسوأ من كلّ ما سبق بعد: الفقر المدقع في لبنان يتركّز أساسا بالمناطق السنيّة الشماليّة في عكّار والضنيّة وأجزاء من طرابلس. ليس صدفة أنّ قوارب الموت التي خرجت الى أوروبا من لبنان طلبا للهجرة غير الشرعيّة انطلقت من طرابلس، لا من سواها.
يلاحظ سليم زخّور بكتاب الفدراليّة التوافقيّة في لبنان (2022) ما يلي: "بعد سقوط نظام صدّام حسين، ورغم اختلاف التوجّهات عند مختلف القوى السنيّة، الّا أنّ الاجماع بينها كان على رفض القبول بتغيير قواعد العمل السياسي وفقا للهويّة الطائفيّة. واعتبرت هذه القوى مسألة الفدراليّة خطرا على وحدة العراق وحدّدته أنّه مشروع تفكيك، لتشكّل هذه المسألة خطّا أحمر بالنسبة الى العرب السنّة. كما عبّروا عن أفضليّة واضحة لدولة مركزيّة قويّة، رغم استعدادهم للنظر في درجة معيّنة من اللامركزيّة. ورأت هذه القوى أنّ ارساء الفدراليّة والاقرار بتعدّد الهويّات، يشكّل منطلقا لضرب الدولة المركزيّة".
هذا المقطع لزخّور دقيق ويستحقّ التوّقف عنده. رفض السنّة العراقيّون الفدراليّة فعلا عندما كانت ممكنة وللأسباب التي ذكرها. كانت النتيجة مذّاك أن حصل الأكراد على كردستان في الشمال، وسيطرت القوى الشيعيّة على ما تبقّى، بينما خرج سنّة العراق من المولد بلا حمّص. في هذه المسألة عبرة لسنّة لبنان، لو أرادوا. اتّفاق "الطائف" لم يعطهم الكثير، وهو ميت سريريّا أصلا؛ ليدعوه يزهق بدل التمسّك بجثّته. الدولة المركزيّة كما بناها "الطائف" خاضعة لسطوة الثنائي الشيعي بدءا بوزارة الماليّة. مشاريع الفدراليّة، و/أو المنطقة الحرّة تقدّم مخرجا للسنّة كي يخلّصوا أنفسهم من الهيمنة الفئويّة على البلاد؛ وهي أيضا فرصة لتنمية مناطقهم المحرومة عبر اللامركزيّة الماليّة. خسر سنّة العراق الكثير لأنّهم رفضوا الفدراليّة، وتمسّكوا بالنظام المركزي. لا ضرورة كي يتكرّر السيناريو نفسه بلبنان.