أنطونيو رزق - النخب المسيحيّة الرومنطيقيّة: أهلنا اللّدودون

يصادف نهاية الشهر الحالي بلوغ الفراغ الرئاسي في لبنان شهره الثامن ولا يزال الوضع عالقًا عند نقطة الصفر. مع امتداد الفراغ إلى باقي المؤسّسات، أصبح من الجليّ أنّ البلاد تعاني من أزمة نظام عميقة تتطلّب إعادة نظر بالتركيبة اللبنانيّة كيلا يبقى المواطن رهن صراعات النخب السياسيّة على كعكة السلطة. وعليه، سطع نجم الفدراليّة كأحد الحلول الجديّة الّتي تتيح فرصة المحافظة على وحدة لبنان على أن تحصر صراعات النخب السياسيّة في المركز وتعطى الأقاليم صلاحيّة تسيير شؤون المواطنين. ومع انّ الطرح الفدرالي متماسك، نظريًّا وعمليًّا، إلّا أنّه يبقى معرّضًا لحملة شرسة من الكثيرين وخاصّة من بعض النخب المسيحيّة الرومنطيقيّة الرافضة للفدراليّة باعتبارها طرحا "طائفيّا". فماذا وراء هذه الحملة؟ ولماذا ترفض هذه النخب حتّى التفكير بإمكانيّة قيام نظام فدرالي في لبنان؟ وهل الفدراليّة أو حتّى ما بعد بعدها، تحطّم إمكانيّة تجسّد أحلامهم وأهدافهم أو أنّها تتيح الفرصة لتحقيقها ضمن إطار أضيق؟

ينبع رفض بعض النخب المسيحيّة للفدراليّة  من عدّة مصادر. أهمّها، صعوبة التخلّي عن حلم إقامة وطنيّة لبنانيّة جامعة تذوب الهويّات الطائفيّة ضمنها وتقوم الدولة-الأمّة اللبنانيّة حيث لا مسيحي ولا شيعي ولا سنّي ولا درزي، بل لبناني. على الرغم من سحر الفكرة وجاذبيّتها بالنسبة إلى الكثيرين، تبقى سرابا أثبت انفصاله عن الواقع المجتمعي المشرقي عمومًا واللبناني خصوصًا. فبعد مئة عام على تحرّر بلاد المشرق من سيطرة السلطنة العثمانيّة وترسيم حدودها الحاليّة، تبقى العصبيّات الدينيّة والمذهبيّة والعرقيّة والعشائريّة في أوجّها لا بل تزداد احتدامًا واضطرابًا على ما بيّنته ثورات الربيع العربي الّتي حرّكتها أساسا نخب مدينيّة بعضها بخلفيّة ليبراليّة وما لبثت أن اختتمت على يد داعش على وقع شعارات أصوليّة ومذابح استهدفت أبناء الأقليّات الدينيّة على وجه الخصوص.

على الرغم من نبل فكرة الوطنيّة اللبنانيّة ومعتنقيها، تبقى مجرّد فكرة كما كانت الشيوعيّة أو الوحدة العربيّة أو الوحدة السوريّة أفكارًا قالبها فخيم لكنّ مضمونها لا صلة له بالواقع المجتمعي. فطروحات هذه النخب، من إلغاء الطائفيّة السياسيّة أو دعوتهم إلى العلمنة، تفترض وجود مجتمع متجانس مؤهّل لممارسة الديموقراطيّة البسيطة أي ديموقراطيّة المشاريع السياسيّة وليس ديموقراطيّة معدّلات الانجاب. الحقيقة أنّ هذا الشرط الموضوعي لقيام أيّة دولة مركزيّة قائمة على مواطنة متينة مفقودة في بلاد العرب عمومًا وأيضا في لبنان. فمصر مثلًا لا تعتمد كوتا طائفيّة معيّنة في مراكز الدولة إنّما تمثيل الأقباط المصريّين في الدولة، والّذين يعدّون حوالي العشرة مليونًا، يبقى شبه معدوم. الحقيقة المرّة أنّه لا يوجد دولة في العالم، يشكّل المسلمون فيها الأكثريّة، استطاعت بأيّ شكل من الأشكال أن تبني دولة علمانيّة أو أن تبني وطنيّة جامعة لا تشعر الأقليّات الدينيّة فيها بأنّها مهمّشة. من بنغلادش وباكستان شرقًا إلى الصحراء المغربيّة غربًا، ولا دولة علمانيّة أو أيّ نظام يشبه ما يتطلّع إليه المسيحي الواهم بالوطنيّة اللبنانيّة. كون لبنان البلد الوحيد عربيًّا الذي يتمتّع فيه المسيحيّون بحصّة وازنة في السلطة دليلًا على عقم ثقافة الأكثريّة العدديّة في المنطقة عن إنتاج الدولة-الأمّة القائمة على مواطنة حقيقيّة لا تميّز بين المسلم وغير المسلم.

ختامًا، تمسّك بعض النخب المسيحيّة منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم بفكرة إقامة الدولة-الأمّة مع المسلمين، يشي بأنّهم لا يزالون ينظرون إلى لبنان والمشرق العربي من ثقب التجربة الفرنسيّة مع رفضهم الإقرار بأنّه لا يوجد ولا أيّ دولة ذات أكثريّة مسلمة تمكّنت من الارتقاء بمجتمعها إلى مستوى المواطنة البعيدة عن الصبغة الدينيّة. فإن صحّ أنّ النموذج الفرنسي أنتج أنجح وأرقى الدول في العالم، إنّما يبقى نموذجًا يتناقض تناقضًا شديدًا مع ثقافة العالم العربو-اسلامي. وعليه، نسأل النخب المسيحيّة الرافضة للفدراليّة أو ما بعدها، ما هو الأفضل؟ التمسّك بحلم تطبيق النموذج الفرنسي على الـ١٠٤٥٢ كلم مربّع على الرغم من انعدام فرص تحقّقه، أو القبول بتحويل الحلم إلى واقع على مساحة جبل لبنان التاريخي؟