في مسعاي الدائم لاكتشاف واقع المسيحيين المشرقيين بعيدًا عن أي انحياز قد تسببه موروثات الثقافة الشعبيّة أو القصص العائليّة أو الأفكار الإيديولوجيّة التي تتّصف غالبًا، في مشرقنا، بالرومنطيقيّة، أو أيّ شعارات مثاليّة، كمقولة لبنان الرسالة، لا تمت لواقع حال المسيحيّين بصلة، تاريخًا أم حاضرًا، رحت أبحث وأقرأ في كتب التاريخ بحثًا عن واقع أجدادنا المسيحيين في هذا المشرق.
ضمن هذه الكتب التي اطّلعت عليها، واحد بعنوان "المسيحيّون المشرقيون ودول الخلافة الإسلاميّة، جدليّة السلطة والدين، دار سائر المشرق، ٢٠٢٣، لكاتبه الدكتور أنطوان ضومط استاذ مادة التاريخ العربي والإسلامي في العصور الوسطى في الجامعة اللبنانيّة.
يتناول الدكتور ضومط في كتابه أحوال المسيحيين المشرقيين في ظلِّ حكم الخلفاء المسلمين على مرِّ التاريخ، يدعي الكاتب أنه لا يهدف في ما كتب إلى نكئ الجراح، بل إلى إبراز دور رجال الدين المسلمين المتشددين في خطابهم الديني، على مرّ التاريخ الإسلامي، ومدى تأثيرهم على أحكام الخلفاء المسلمين بحقّ المسيحيين، ويعرض الكاتب ضمنًا في سرده ومقارنته للأحداث الجدليّة القائمة مابين السلطة والدين. يتبع الدكتور ضومط المنهج الجدليّ القائم على مقارنة الأحداث المتناقضة والمتشابكة، في مفردها ومجملها، بمحاولة لمعرفة واقع المسيحيين الفعلي والمُعاش تحت حكم الخلفاء المسلمين.
ببسيط الكلام، يقارن الكاتب بين العهود (جمع عهد) التي قطعها النبي لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) والتي اتصفت عمومًا بنبرة وديّة، وبين أحكام الخلفاء، بحق من اسمَوهم لاحقًا بأهل الذمة، والتي أتت في معظم عهود الخلفاء ظالمة وقاسية بحق المسيحيين. ويؤشر الكاتب إلى أنّ هذه الأحكام لم تأتِ فقط بعيدة عن النبرة الوديّة لعهود النبي، لا بل خالفت في الكثير منها نصوص القرآن بحق أهل الكتاب. يقول الكاتب بأن أسباب هذه الشدّة في الأحكام هي التالية:
أولًا، سعي بعض الخلفاء النَهم للسلطة دون الاكتراث للمصلحة العامة.
ثانيًا، طمع الخلفاء في جني المال مما دفعهم لإرهاق الناس بالضرائب.
ثالثًا، المحاولات الدائمة والحثيثة من قبل الخلفاء ورجال الدين المسلمين لأسلمة المسيحيين.
رابعًا، التأثير المباشر للخطاب الديني المتشدد بحق المسيحيين على الخلفاء وعموم المسلمين.
تُبرز الجدلية المطروحة الفرق بين القول والفعل؛ بين قول، "خير أمّة أخرجت للناس" و فعل "الأحكام العُمرية" بحق المسيحيين؛ بين قول، "دين الحقّ" وفعل "حدّ السيف" على رقاب الذميين.
يَخلص الكاتب أخيرًا، إلى أنّ الإسلام السياسي فشل في توحيد المسلمين (خلاف دائم ودموي على الخلافة) ولم ينجح في تقديم المثال الصالح للمسيحيّين كي يشجّعهم على قبول الإسلام دينًا بدلًا عن دينهم.
من الأفكار المهمّة التي أعجبتني في الكتاب وأوافق الكاتب عليها، قوله " أنّ التشابه في مسارات بعض الأحداث ليس إلّا إعادات لبعض الثوابت التاريخيّة الراسخة في القِدَم [...] لكنها لا تعني بالضرورة أن التاريخ يعيد نفسه كما يدّعي بعضهم [...] ولعلَّ أبرزها الصراع الديني المذهبي، والتناقض بين الغنى والفقر، التضادّ بين العدالة والظلم، والصراع الأبديّ بين الحريّة والاستبداد، كما بين الحداثة والتقليد..." وإذ يمَحوِر الكاتب جدليّته حول الزمني والديني، يوضح أنّ مسارات هذه الثوابت تتكرّر عبر الزمن في مسار لولبيّ.
أعتقد بأنّ هذا الوصف نجد صحّته في لبنان عبر تاريخه إذ أنّ الصراع الديني والمذهبي لا يزال يتأجّج كلّما مرّ لبنان بمنعطف سياسي أو غير سياسي. إذ لا يلبث أن يتحوّل أيّ صراع من سياسي أو غيره إلى مذهبي طائفي بمجرّد الإشارة إلى أنّ الطائفة بخطر وجوديّ. لتُعاد الكرة تلو الكرة بمسارات متشابهة معظمها يأخذ شكل الحرب الأهليّة.
لا شكّ أنّ علاقة الدين والسياسة هي معضلة المعضلات. ففي لبنان مسيحيّون ومسلمون. عند المسلمين نجد في الإسلام دينًا ودولة، بمعنى أنّ الدولة يجب أن تُحكم بحسب الشريعة الإسلاميّة التي تفصل وتحكم في أمور الفرد والجماعة. أمّا عند المسيحيّين فالأمر مختلف، إذ نجد فصلًا ما بين الدين والسياسة ارتكازًا على قول يسوع في الإنجيل "أعطوا لقيصر ما هو لقيصر وما لله ما هو لله" ، فتفسّر على أنّها دعوة مباشرة لفصل الدين عن السياسة، إلّا أنّي أرى شخصيًّا، على أنّها ليست دعوة للفصل بل لعدم الخلط، أي عدم استعمال الدين لمآرب سياسيّة والعكس صحيح، ولكن لا مجال هنا للتوسّع بهذا الأمر.
إذًا النظرة للدين والسياسة تكاد تكون متضادّة لدى المكوّنين الأبرزين في لبنان.
أودّ أن أعرض لحدثين مرّا في هذه السنة ٢٠٢٣ يتظهّر من خلالهما مدى عمق المسألة الطائفيّة في لبنان ومدى تجذّرها كثابت تاريخي.
الحدث الأول تجسد بخلاف حول مسألة التوقّف عن العمل بالتوقيت العالمي خلال شهر رمضان. إذ قام رئيس مجلس النواب نبيه برّي بالطلب إلى رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي، شفهيًّا، بعدم اتّباع التوقيت العالمي طيلة شهر رمضان وذلك، كما سُمع من حديثه المسرّب تلفزيونيًّا، اتى مراعاة للمسلمين الصائمين. فاستجاب الأخير لطلب الرئيس برّي وسطّر قرارًا بذلك ضاربًا عُرض الحائط كلّ الأعراف والقوانين المرعيّة الإجراء وما قد يسبّبه هكذا قرار من أضرار ماديّة ومعنويّة لكلّ المؤسّسات والشركات الّتي لها ارتباطات ومصالح مع الخارج تقوم على مقياس التوقيت العالميّ. الأمر الّذي أثار ضجّة على مساحة الوطن مثيرًا حفيظة اللبنانيّين عمومًا والمسيحيّين خصوصًا، إذ ارتدى الطلب بعدًا طائفيًّا. برزت مقولة "توقيت المسيحيّين" و"توقيت المسلمين" ناهيك عن الكمّ الهائل من التعليقات الساخرة على وسائل التواصل الإجتماعي. تجدر الإشارة إلى أنّ رئيس الحكومة المستقيلة كان قد أتى سابقًا بتصريح، غريب في توقيته ومضمونه، مفاده أنّ المسيحيّين ما عادوا يشكّلون سوى ١٩% من مجمل السكّان في لبنان.
أمّا الحدث الثاني، فأتى من صيدا حول قضيّة لبس "المايوه" على الشاطئ البحري. إذ قام أحد الشيوخ مع بعض الصيداويّين بالاعتراض علنًا على سيّدات يلبسن لباس السباحة عل الشاطئ، الأمر الذي بحسب هؤلاء مخالف للسنن الشرعيّة الإسلاميّة التي هي من مصدر إلهي، وبالتالي لا يجب التهاون بعدم تطبيقها ومع مخالفيها. أيضًا وأيضًا، اصطفّ المسيحيّون والليبراليّون لمواجهة الاعتراض لتعود جدليّة الدين والسياسة والقوانين والطائفيّة إلى الواجهة.
العبرة من كلّ هذا أنّه كلّما تمّ المسّ بثابتة من الثوابت التاريخيّة في لبنان ومنها الطائفيّة والزعامة العائليّة، نعود لنشهد نفس المسارات التي حصلت في التاريخ ولنحصد نفس النتائج وإن بأطر ووجوه مختلفة. اذا أخذنا مثالًا من علم الكيمياء لاتّضحت الصورة بشكل أفضل وأبسط. لنأخذ مكوّنين، النار والبارود، النار بطبيعتها حارقة والبارود بطبيعته مواد قابلة للاشتعال والتفجير، فكلّما وضعنا البارود بجانب النار سنحصل على اشتعال وتفجير، وهذه ثابتة علميّة، فلنقس على ذلك ما ذكرناه من الثوابت التاريخيّة لتتّضح لنا الصورة. لا نَلومَنَّ التاريخ إن عاد وتكرّر بل دعونا ننظر إلى ثوابت هي بطبيعتها متفجّرة وقد وضعناها بجانب بعضها البعض. الثقافة المسيحيّة لها طبيعتها وخصائصها كما للثقافة الإسلاميّة طبيعتها وخصائصها. برأيي الجمع بينهما أمر عسير بشهادة أحداث دامية ودمويّة حصلت بينهما على مرّ مئات السنين في هذا الشرق.
طرح الفدراليّة في لبنان هو الحلّ الأفضل لبقاء هاتين الثقافتين مجتمعتين فوق أرض لبنان إذ إنّها تحفظ المسافة السليمة فيما بينهما ما يجنّبهما الاحتكاك والاشتعال مرارًا وتكرارًا. في الفدراليّة مصلحة للجميع فنصبح "كما الأعمدة" لجبران خليل جبران، كلّها تحمل سقفًا ألا وهو الوطن ولكن لكلٍّ منها موضعه وتفصل بينها مسافة موحّدة تحافظ على توازنها وثباتها.