أنطوان صليبا (إسم مستعار)
ترتبط عبارة "لبنان الرسالة" بالخُطب الرسميّة للدولة اللبنانيّة قبل وبعد الحرب الأهليّة، حيث يُختصر دور هذا البلد وشعبه بكونه تجربة تعايش بين المسيحيّين و المسلمين العرب. لم تُثبت هذه التجربة نجاحها حتّى الآن، ففضلًا عن العامل الزمني الّذي يثبت يوميًّا أنّ الرسالة المنتظرة من بلد مثل لبنان تبدو أشبه بانتظار "غودو"، يأتي تغوّل الحزب "الإلهي" على الشعب اللبناني مغيّرًا طبيعة الرسالة أساسًا من كونها قصّة بلد منفتح ومتطوّر ومحبّ للحرّيّة إلى بلد منغلق تبتلعه عباءة الملالي، محوّلة إيّاه إلى شريك في حلف الكبتاغون والسلاح وتهريب البشر والتهرّب من القانون الدولي. فأيّ رسالة نريد؟ وعن أيّ دور نتحدّث؟ هل يريد اللبنانيّون المسيحيّون حقًّا إكمال هذه التجربة البشريّة النفسيّة المكلفة جدًّا إلى نهايتها بنهايتهم؟ فكيف يكون التعايش ممكنًا بينهم وبين المسلمين المرتبطين بقضايا وطموحات عابرة للحدود؟ هل سيستطيع المسيحيّون اللبنانيّون المنفتحون على العالم العيش بسلام وكرامة من دون التورّط بقضايا غريبة عنهم ما عدا تثبيت الوجود وتأمين المستقبل لأبنائهم؟ قطعًا لا، لن تنجح تجربة التعايش الّتي تريد جمع النقيضين -الوطنيّة وما بعد الوطنيّة- إلّا بتهجير المزيد من المسيحيّين اللبنانيّين الذين لا يقف دورهم عند اختبار تجربة تعايش فاشلة.
ثمّة جانب مهمّ لهذا الدور، أعني المسيحيّين اللبنانيّين وفكرة الوطن الملجأ، نادرًا ما يتمّ التطرّق إليه بدقّة. فمن المعلوم أنّ عبارة "الوطن الملجأ" فُنّدت بمؤلّفات كثيرة لمؤرّخين بارزين تكلّموا فيها عن لبنان ملجأ الأقليّات القابعة بصراع دائم مع محيطها العدائي. هذا المعنى فيه الكثير من الدقّة إلّا أنّ معظم النقاشات تغفل عن دراسة حالة لبنان، وطن الأقليّات، في عيون أقليّات البلدان المجاورة، والتي تشكّل الشعوب الأصليّة في سوريا والعراق والأردن وحتى فلسطين.
إلّا أنّه في هذه البلدان، يعيش المسيحيّون المشرقيّون حالة من المواطنيّة المنقوصة، وهنا أتحدّث بالتحديد عن نفسي بصفتي مسيحي سوري ممنوع عن السياسة ومحروم من مواطنة كاملة بفعل الدولة الأسديّة.
لبنان بالنسبة لي تجربة مسيحيّة مشرقيّة قدّمت للعالم صورة عن ما يشبهنا فعلًا كمسيحيّين مشرقيّين أحرار، تجلّت بجامعات ومراكز ثقافيّة على مستوى رفيع وبسياحة وفنّ وسينما، وبأحزاب سياسيّة وبديموقراطيّة وتنوّع أفكار. كان لبنان بالفعل سويسرا الشرق، لا مجازًا وحسب، عدا عن كونه دليلًا حيًّا على قدرة مسيحيّي الشرق إذ ما تُركوا على حرّيّتهم ليصنعوا ويكتبوا ويحاربوا (حيث يلزم).
كان لبنان مصدر أمان نفسيّ وملجأً شعوريًّا وعاطفيًّا بالنسبة إليّ، فهناك خلف حدود قريبة مسيحيّون مثلي، غلبوا الذميّة وعاشوا أحرارًا، أبرزهم بشير الجميّل، القائد الرمز لجيل من مسيحيّي المشرق، والّذي ألهمت ثورته على الذميّة الإسلاميّة شبابًا مسيحيّين سريان وروم من سوريا والعراق، تركوا وراءهم كلّ شيء للّحاق به والانضمام إلى صفوفه في عزّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة. وربّما لا يذكر الكثيرون المتطوّعين من مسيحيّي الشرق الّذين سافروا من سوريا والعراق وقاتلوا في الأشرفيّة وزحلة. هؤلاء تبعوا بشير مدركين مبكرًا أنّ النضال السلمي لا ينفع في ثقافة الجزية وأنّه علينا أن نقاتل كي نبقى. لبنان بالنسبة إلينا نحن المسيحيّين في محيطه، هو رسالة مقاومة واستمرار لوجود لم ينقطع، بالإضافة إلى كونه مصيفًا ومكانًا آمنًا، نشتاق أن نسير في مناطقه المسيحيّة مع أُسرنا بحرّيّة في زيارات قصيرة في العطلة من دون التقيّد بالعادات والثقافة الإسلاميّة المفروضة علينا في بلداننا.
إذًا لبنان هو ليس فقط الملجأ الحقيقي لمسيحيّيه الذين قاتلوا في سبيله، بل هو أيضًا ملجأ شعوريّ لنا نحن المسيحيّين على أطرافه ومصدر أمان وفخر وتعويض عن سنوات من الإبادة، حتّى لو لم نكن لبنانيّين. أظهرت التجارب المريرة الّتي مرّت على لبنان أنّه لا تبدو في الأفق أيّة حلول تُبقي على الملجأ والملاذ عدا الفيدراليّة. في سوريا مثلًا أثبت الحم الذاتي الجزئي على أثر الحرب نجاحه في الحفاظ على الوجود الكردي والسرياني حيث مكّنهم من قتال داعش وفرض واقع اقتصادي جديد أنقذ أهل الجزيرة السوريّة من الاندثار كلّيًّا.
لذلك، فإنّ رفض الطرح الفيدرالي اليوم في لبنان هو قتل لهذا الملجأ عبر تهجير مسيحيّيه و استكمال التطهير الإثني ضدّ الأقليّة المسيحيّة الوحيدة الوازنة في شرقٍ قاحل، يشكّل فيه لبنان الملجأ الوجدانيّ الوحيد.
في حال استمرّ الاندثار الديموغرافي المسيحي من دون مواجهته بحلّ فيدرالي يضمن وجود المسيحيّين الحرّ بصفتهم مواطنين وليس مجرّد أهل ذمّة عند الآخر المسلم العربي، سيستمرّ رحيل المسيحيّين وبصورة أسرع، ولن تكون الخسارة مقتصرة عليهم فقط، فإن رحلوا، سيختفي معهم مصدر الأمان النفسي والتعزية والملجأ لجيرانهم الذين يراقبونهم بصمت في ظلّ بطش الأنظمة الحاكمة.