أنطونيو رزق - إلى الاتّكال على الذات... درّ

حلّقت أعداد الجرائم المرتكبة في لبنان الى مستويات قياسيّة منذ اندلاع الازمة السياسيّة والاقتصاديّة عام ٢٠١٩. على الرغم من عدم تمتّع البلاد بمعدلات جريمة منخفضة قبل الازمة مقارنة مع باقي دول العالم، يبقى أنّ الحال الذي وصلت إليه الأمور اليوم مأساوي ويستوجب التوقّف عنده. خلال الاسبوع المنصرم وحده، قتل شاب من عائلة طوق في القرنة السوداء برصاص قنّاص وفق ما تداولته الصحف. كما أدّى اعتداء وحشي وبربري على طفلة تبلغ من العمر ستّ سنوات في المنية إلى مقتلها. بعد تجاوز الفراغ الرئاسي عتبة الثمانية أشهر، اصبحت مؤسّسات الدولة كافّة ومنها الامنيّة تعاني من تعثّر بلغ مراحل خطرة. ومع انسداد الافق أمام الوصول إلى انتخابات رئاسيّة مثمرة خلال وقت قصير، بات واجبا البدء بالتفكير بآليّة تسمح للسلطات البلديّة اللامركزيّة أن تقوم بنشاط  أوسع ممّا هو عليه الحال اليوم للحفاظ على سلامة المواطنين.

والحال أنّ الازمة الاقتصاديّة التي تعصف بالبلاد انّها بيّنت هشاشة السلطة المركزيّة اللبنانيّةبشكل أوضح.  السلطة المركزيّة في لبنان، وعلى الرغم من تمتّعها بصلاحيّات واسعة دستوريّا وقانونيّا، ضعيفة على أرض الواقع حيث تنافسها ميليشيات عديدة في بسط سيادتها على الأراضي اللبنانيّة. يعلم القاصي والداني اليوم، أنّ البلاد أصبحت عبارة عن بؤر أمنيّة مجمعة على بعدها حيث تفرض قوى الأمر الواقع سيطرتها على عدّة مناطق لبنانيّة ولا تصل يد الدولة إلّا إلى بعض المناطق الأخرى التي لا يزال يؤمن أهلها بمنطق الدولة بشكل مبدأي. ولكن عندما يضحي المبدأ وسيلة ابتزاز  تستخدمها قوى الأمر الواقع لإبقاء خصومها ضعفاء وغير قادرين على تأمين أبسط حق انساني وهو العيش في أمان، تصبح المطالبة بدعم السلطات المحليّة في بسط الأمن ضمن نطاقها مطلبًا مشروعًا واخلاقيًّا.

صدر منذ أيّام تقرير أعدّه معهد واشنطن للدراسات يبيّن فيه بشكل صريح كيف استطاع حزب الله الاستفادة بشكل كبير من الازمة الاقتصاديّة اللبنانيّة، حيث سمح له انهيار المصارف اللبنانيّة الشرعيّة بتوسيع شبكته المصرفيّة والماليّة من جهة. ومن جهة أخرى، استفاد الحزب من تحوّل الاقتصاد الى اقتصاد نقدي فسمح له ذلك بالتهرّب من العقوبات الاجنبيّة بسلاسة أكبر وسهّل عليه عمليّات تبييض الأموال. في هذه الاثناء، لا يستطيع أهل باقي المناطق تأمين الحدّ الأدنى من ضروريّات الحياة وهو الأمن. هل يعقل أن يبقى حزب الله مستفيدًا من الازمة ومن تطوّرات الاقليم ويستمر في توسّعه وتغلغله على صعيد كل لبنان ونبقى نحن أي من يؤمن بدولة القانون نتفرّج عليه ونتناقش بجنس الملائكة؟

في كلّ ازمة فرصة. حتّى اليوم، يبدو أنّ حزب الله هو المستثمر الوحيد للفرص. أمّا باقي الاطراف، ومنذ ثورة الارز الى اليوم، في حال جمود وعقم استراتيجي وتكتيكي. ولكن، لم يعد هناك ما يمكن خسارته. إذا كان مبرّر التسويات السابقة المحافظة على الاقتصاد والاستقرار، فعظّم الله أجركم، خسرنا الاقتصاد والاستقرار. اليوم، أصبح تبلور مشروع سياسي متكامل في مواجهة الهيمنة الطائفيّة الاقصائيّة على البلاد ضرورة وواجبًا. يبدأ ذلك أوّلًا بإعادة حدّ أدنى من الاستقرار الأمني عبر دعم السلطات المحليّة وتشجيعها على بسط الامن في المناطق، علّ ذلك يريح الاهالي ويحدّ ولو جزئيًّا من الهلع واليأس اللذين شكّلا وقود الهجرة الّتي تفتك بمجتمع لبنان الحر يومًا بعد يوم على نحو تصاعدي لا يشي بالخير.