إدمون الياس بخّاش
إنّه كتيّب صغير في حجمه كبير في معناه وعميق في مضمونه. "لبنان: المفهوم والتحدّيات، شارل مالك، جواد بولس، كمال يوسف الحاج، ميشال شيحا، إعداد جاد القصّيفي، إنتاج مركز فينيكس للدراسات اللبنانيّة، 2011، 101 ص".
شاء السيّد قصّيفي، معدّ هذا الكتيّب، أن يطرح مسألة الكيان والوطن اللبناني في الزمن الحاضر وما يواجهه من تحدّيات. للإضاءة على طرحه هذا أستحضر من الماضي القريب، من زمن المفكّرين الكبار، أربع شخصيّات لعبت أدوارًا مهمّة في تاريخ لبنان المعاصر برغبة منه إلى الاستنارة بأفكارها عسى أن تكون عبرة لمن اعتبر في رمننا الحاضر.
يحتوي الكتيّب على مجموعة من المقالات، إثنان منها لشارل مالك بعنوان: لبنان كيانًا ومصيرًا، و ظاهرة الأقليّات في الشرق. ومقالة لجواد بولس بعنوان: أهميّة التاريخ والجغرافيا في نشوء الأمم. ومقالة رابعة لكمال يوسف الحاج بعنوان: القوميّة اللبنانيّة. وواحدة أخيرة لميشال شيحا بعنوان: لبنان في شخصيَّته وحضوره.
في مقالتي هذه سأقوم بعرض ما كتبه الدكتور شارل مالك في مقالته الأولى والتي عنوانها، لبنان كيانًا ومصيرًا، وسأناقشها في محاولة لتبيان الفوارق الجذريّة ما بين الافكار التي يطرحها الدكتور مالك من جهة، و بين الواقع والحقيقة المعاشان في لبنان من جهة أخرى. أعتمد في نقاشي هذا على المقارنة ليس فقط بين حاضر وماضٍ، بل أيضًا بين ما هو طرح واقعي وما هو طرح رومنطيقيّ بالمعنى السياسي والوجودي.
لمن لا يعرف شارل مالك، من أبناء جيل اليوم، هو لبناني من مواليد بلدة بطرّام في قضاء الكورة عام 1906، يعدّ من أبرز شخصيّات لبنان الفكريّة والسياسيّة، درس الفيزياء والرياضيّات والآداب العالميّة والفلسفة واللاهوت في أكبر جامعات العالم كهارفرد وفرايربورغ، حيث تتلمذ على أيدي أبرع فلاسفة عصره كألفرد وايتهيد ومارتن هايدغر. شارك في تأسيس هيئة الأمم المتّحدة ووقّع على شرعتها باسم لبنان عام 1945. عيِّن وزيرًا للخارجيّة في عهد الرئيس كميل شمعون وساهم في تأسيس الجبهة اللبنانيّة.
مقالة د. مالك في هذا الكتيّب "مستلة من كتاب بعنوان: الهجرة مسألة لبنانيّة؟ جامعة الروح القدس الكسليك لبنان، 1974، ص 9-47 وهو يشمل النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها الدكتور مالك في حرم الجامعة".
يعالج د.مالك مسألة الكيان اللبناني من وجهة نظر "فلسفيّة إنسانيّة كيانيّة، تقفز إلى الحقيقة وتقبض عليها" ويضيف أنّه من " لم يعتد على البحث الكياني الدقيق الصارم، حيث الإنسان في وجوده وعدم وجوده هو الموضوع، قد لا يفهمني أو قد يسيء فهمي." سنحاول قدر المستطاع عدم إساءة فهم ما أتى به الدكتور مالك، في هذا المقال الذي أعدّه وأعاده علينا السيّد قصّيفي، ولكن سنحاول مناقشة الأفكار الرئيسيّة ليس بطريقة جدّ صارمة، بل بطريقة موضوعيّة تستقي شواهدها من الواقع المعاش في العام 2023.
يبدأ الدكتور مالك بطرح السؤال الآتي: "ما هي الخصائص التي تحدّد لبنان في ذاته، وتميّزه تمييزًا حاسمًا عن الغير، بحيث إذا قلت لبنان، عنيت هذه الخصائص بالذات، وإذا سقطت هذه الخصائص سقط لبنان؟"
ويجيب معدّدًا عشر خصائص: هذا الجبل الفريد، القرية اللبنانيّة الفذّة، مركز لبنان السياحي الممتاز، تجارته العالميّة العجيبة، ظاهرة الاغتراب اللبناني بكلّ ما تعنيه تاريخيًّا وكيانيًا، التواجد المسيحي والإسلامي السمح الرائع، الحريّة الكيانيّة المسؤولة، الانفتاح على العالم في الزمان والمكان، معنى لبنان الفكري والمتواضع في الشرق الأوسط وفي العالم، إسهام لبنان في المعترك الدولي.
سنبدأ بمناقشة هذه العناوين، الواحد تلو الآخر لنستطيع البناء على ما هو قائم اليوم إذا ما زالت هذه الخصائص قائمة، ونحاول الإجابة على السؤال التالي: هل الخصائص التي ذكرها الدكتور مالك لوصف لبنان الكيان ما زالت قائمة اليوم أم انها سقطت وبالتالي سقط لبنان؟
العنوان الأول " هذا الجبل الفريد": بالنسبة لمالك، الجبل يمثّل ذهنيّة معيّنة وحياة الجبل تسيطر على الانسان في لبنان لأنّ الجبل هو الحدّ الفاصل مع الصحراء الداخليّة و في نفس الوقت والمُنطَلَق نحو البحر وبهذه الجبال يتميّز لبنان عن غيره من بلدان المنطقة وبدونها "لا يوجد لبنان".
الجبال للأسف جُرّدت من المساحات الخضراء وحلّت مكانها مساحات من الباطون المسلّح تصبّ نفاياته في البحر. من ناحية أخرى، أراضي الجبل في بعض المناطق كالقرنة السوداء متنازع عليها وتسبّب الخلافات الّتي نتج عنها مؤخّرًا سقوط قتيلين من آل طوق عدى أنّ الكثيرمن قممها هي، لمن يسمّون أنفسهم بالمقاومة، عبارة عن تلال حاكمة بالمفهوم العسكري يسيطرون عليها بمباركة الجيش اللبنانيّ. لا زال الجبل بحجارته قائمًا ولكن ليس حتمًا بالمفهوم الذي تحدّث عنه الدكتور ملك. فعذرًا.
أمّا "القرية"، وهي العنوان الثاني، المتميّزة بالعادات والتقاليد والطيبة، فمن الملفت أن يستعمل الكاتب في وصفها مصطلحًا عاميًّا هو "الكنكنة". ويسترسل بعدها في تعداد أنواع الأشجار، البريّة منها والمثمرة، والنباتات والخضار والفواكه.
لاشكّ في أنّ البراءة قضت عليها مآسي الحرب اللبنانيّة التي تلت هذا الكلام، بجروح عميقة وخسائر ماديّة ومعنويّة، وكمّ من الضحايا الأبرياء و المفقودين والمعاقين. طويت صفحة الحرب فطويوا معها. خير مثال على ذلك الكثير من قرى الجبل التي هُجّر أهلها ولم يعودوا، وإن عاد بعضهم فكمن يعود للمصيف لا لداره ومستقرّه الدائم. أين "الكنكنة" اليوم مع اجتياح وسائل التواصل الإجتماعي والتكنولوجيا التي عززت روح الانعزال أمام الشاشة ووهم الاتصال مع العالم. فلا "كنكنة" ولا من يحزنون. ويحزنني أنّ معظم شباب جيل اليوم لا يعرف أكثريّة أنواع الأشجار التي عدّدها الدكتور مالك. بالتالي، ما هو إلّا وصف رومنطيقي بامتياز لم يعد له من وجود في واقع واليوم الحاضر.
ثالثًا، السياحة: من منّا كلبنانيّين لم يتغنّى بلبنان التاريخ، جبيل الحرف، بيروت أم الشرائع، صيدا الحضارة، صور الكرامة، بعلبك مدينة الشمسين، وأرز الشموخ طبعًا. كلّ هذا جميل، ولكنّ الدكتور مالك يحاول ربط لبنان بالحضارة والتاريخ الغربي من خلال الميثولوجيا، فقصّة الإلهة الفينيقيّة "أوروبا" التي أعطت اسمها للقارة العجوز يقول فيها مالك: " إذا تأمّلنا بعمق، هو الشهادة أنّ اتّصال لبنان الخلّاق العضوي بالغرب ليس وليد الأمس وليس عرضًا من أعراض أيّ انقضاض "استعماري" جاءه من الخارج أو أيّ مؤامرة "استعماريّة " حيكت له في الغرب، إنّما هو جزء لا يتجّزأ من كيانه التاريخي الطويل، على تقطّعه وعلى مأساويّته."
برأيي، بهذا الكلام تفوّق الدكتور مالك في رومنطيقّيته على سورياليّة سعيد عقل الشعريّة. فينيقيا الماضي غير لبنان الكبير الذي أنشئ أساسًا بمعاهدة سايكس – بيكو التي رسمت حدود دول الشرق الأوسط بعد هزيمة الامبراطوريّة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى، حيث الفرنسي الغربي كان بالنسبة لنا المنتدب ولغيرنا المحتلّ. أمّا اليوم فيدار لبنان ويُسيطر عليه بواسطة ذراعٍ إيرانيّة يمثّلها حزب الله وباعتراف الأخير بالانتماء العضوي لإيران وللثورة الإلهيّة.
العنوان الرابع مخصص للتجارة: يُعرّف الدكتور مالك التاجر بالرجل الشريف ويضيف " أنّه إذا كانت الروح التجاريّة وحدها المسيطرة على ثقافة الشعب وسعيه تخلق روح الكسب الرخيص". طبعًا، بالضبط ما هو حاصل اليوم في لبنان حيث كارتيلات الفساد المفترسة المحميّة بسلاح الميليشيا الذي أنشأ لنفسه تجارة واقتصادًا متوازيين مع التجارة والاقتصاد الشرعيّ.
نأتي خامسًا إلى الاغتراب والمغتربين. يلقي الكاتب اللوم على الدولة لتقصيرها بعدم الاستفادة من طاقات المغتربين عبر تنظيم أمورهم والتواصل معهم.
مسكين هذا المغترب الذي ترك أرضه مٌكرهًا إمّا هربَا من حرب واضطّهاد وإمّا سعيَا للقمة العيش في مجتمعات أجنبيّة تحترم كرامة الانسان المفقودة في لبنان. لطالما نظر اللبنانيّون للمغتربين على أنّهم هذه الدجاجة التي تبيض ذهبًا، والتي من واجبها أن تعطي صاحبها عدد البيض المطلوب ليستمرّ في العيش بحسب أسلوب العيش المرفّه الذي تعوّد عليه. " اللبناني عيّيش". لا نتذكّر المغتربين إلّا وقت الأزمات الماديّة كما هي الحال اليوم مع تدهور العملة، أو عند الحاجة لأصواتهم في الانتخابات، وأبشع ما في الأمر أنّنا نبتزّهم عاطفيًّا معرفة منّا بأنّ الغربة تجعل من ثقل الحنين للوطن قاتلًا، خصوصًا إذا كان لهذا المغترب أهل لا زالت إعالتهم على عاتقه. ولولا هذا الرباط العائلي الذي تربَّوا عليه (المغتربون) لنسَوا لبنان وكفروا به. نصدّر خيرة شبابنا وشابّاتنا ونستورد اللاجئيين دامجين إيّاهم بفوضى العيش الفظيع على الطريقة اللبنانيّة.
أمّا الخاصيّة السادسة فهي، التواجد المسيحي الإسلامي. بكلمات مالك، " لا أعرف تواجدًا صادقًا مثله في التاريخ". وأنا لم أعرف تواجدًا كاذبًا مثله في التاريخ، حيث الجميع يكره الجميع في سرّه ويتملّق محابيًا الوجوه في العلن. مرائيّة لا مثيل لها إلّا في لبنان. تقاتل أبناؤه عبر التاريخ في صولات وجولات حتّى كاد يفني أحدهم الآخر لولا العناية الإلهية حينًا وتدخّل جهات أجنبيّة حينًا آخر. الدككتور مالك الذي وصف ما في هذه المحاضرة بالبحث الكيانيّ الصارم نجده يستعمل الشعور، غير القابل للقياس طبعًا، كمعيار لتأكيد حالة كيانيّة، " أنا أشعر ويجب على كلّ مسيحي أن يشعر أنّه كلبناني، يستطيع أن يتّصل اتّصالًا حميمًا بمسيحيّي العالم عبر الزمان والمكان..." ويقول نفس الشيء بالنسبة للمسلم اللبناني. حسنًا، أن يشعر المرء بشيء وأن يكون له الحقّ أو القدرة على فعل هذا الشيء أمران مختلفان عن بعضهما البعض. اتّصال المسيحي اللبناني بالغرب المسيحي يعدّه المسلمون خيانة وعمالة للغرب "الامبريالي"، كما أنّ اتّصال المسلمين بمسلمي العالم يعدّه المسيحيون خيانة للكيان اللبناني وعدم اعتراف به. صعب على أيّ مكوِّن لبناني التواصل مع أبناء ملَته أو ثقافته من الخارج دون المخاطرة في التورّط أو الضلوع في قضايا هذا الخارج أيًّا كانت تكن. العامل الثقافي غالب دائمًا. لذلك حسبنا والحياد وليقتصر التواصل على بعضنا البعض كلبنانيّين، ألهمّ إذا أردنا البقاء معًا فوق هذه البقعة الجغرافيّة المسمّاة لبنان.
أمّا الأبرز في هذه الفقرة قول الكاتب، "مجالات التعاون والتفاهم بين المسلم والمسيحي في لبنان لا حدّ لها [...] في السياسة والمجتمع والعلم والفن والاقتصاد والمشاريع والحياة الواحدة العامّة، في الخلق الأدبيّ والفكريّ، في الشؤون الأخلاقيّة في هذه اللغة العربيّة العظيمة، في كلّ ما يمت إلى العقل والإنسان والطبيعة، في الإسلاميّة الإنسانيّة العظيمة [...] في التراث الفلسفي والصوفي الاسلامي العربي الكبير، يتعاونان ويتفاهمان كذلك، في مجابهة مصير لبنان والعرب والشرق الأوسط معًا.
رويدًا رويدًا، أمّا في السياسة، فالحقّ يقال أنّ لبنان يفتقد لقامة سياسيّة كالتي للدكتور مالك، ولكن ما ورّثنا إيّاه الميثاق الوطني هو نظام سياسي طائفي بغيض. المجتمع اللبناني في حقيقته مجتمعات عديدة بثقافات وخلفيّات مختلفة ومنقسم مناطقيًّا بشكل واضح للعيان إلّا للذي يأبى أن يرى. أمّا في مجابهة مصير لبنان والعرب والشرق الأوسط معًا، ربّما علينا أن نزيد والعالم أيضًا، لما لا؟ لدينا اليوم لبنانات، ومصائر وأعراب وشرق أوسط جديد. عسى أن لا يظهر مخلوقات من الفضاء الخارجيّ كي لا نُضطرّ لإضافتهم للائحة المواجهة. لم أناقش باقي الافكار لشدّة المثاليّة في مضمونها.
سابعًا، يُعرّف الدكتور مالك الحريّة الكيانيّة المسؤولة بأنّها احترام الإنسان في كرامته الأصيلة الّتي لا تنزع منه مهما كانت تقلّبات الدهر عليه، وحدّد طبيعة "الصراع الحقيقي اليوم (زمن كتابة المقالة أي سنة 1971) هو بين المؤمنين بالحريّة الشخصيّة الكيانيّة المسؤولة الأصليّة وبين الذين يرتعون في ظلّ هذه الحريّة بقصد استخدامها لمآرب أخرى". اليوم نحن في سنة 2023 هناك من يرتع، لا بل يسيطر على القرار الحرّ في لبنان، ليقول للآخرين، " ما لي هو لي وما لكم هو لي ولكم". وإذا أردنا التعويل على أكثريّة نخبويّة فكريّة تأخذ على عاتقها دور المجابهة، فهي غير موجودة لأنّ الأكثريّة القائمة من الناس في لبنان باتوا يجهلون معنى الحرية الحقيقّة إمّا للتبعيّة العمياء للشخص أو للمعتقد، أو بسبب عارض ستوكهولم أو بسبب الخوف الذي يقيّدهم. وإذا ذكرنا الطرق الأربع التي يذكرها الدكتور مالك والتي يساء بها للحريّة لوجدناها مُؤَونة حاضرة، وهي: الفوضى، الإباحيّة، الاستبداد، الانحطاط. وللقارئ الحُكم.
الخاصيّة الثامنة هي الانفتاح على العالم. لا يخفي الدكتور مالك افتخاره باللبناني المتعدّد اللغات، ولكن أعتقد أنّ هذا الانفتاح رتّب تعدّدًا في الانتماءات أيضًا. يصف الكاتب هذا الانفتاح بالسَمِح، ومرّة أخرى يلجأ إلى تشابيه وجدانيّة غير قابلة للقياس، فإذا كنّا قادرين على رصد مفاعيل الانفتاح بتعدّد اللغات مثلًا، كيف لنا أن نقيس مفاعيل هذه السماحة وحدودها؟ طبعًا، لا نريد أن نظهر كماديّين متطرّفين لا نعترف إلّا بما يخضع للقياس العلمي ولكنّنا نحاول جاهدين أن نكون موضوعيّين ملتزمين قدر المستطاع، كي نبتعد عن الرومنطيقيّة في حكمنا وكي نُظهر أيضًا الآثار الرومنطيقيّة في طرح الكاتب والتي من تداعيّاتها حرف نظر القارئ نحو اللاواقعيّة. خصوصًا وأنّ د. مالك يعتقد أنّ انحراف اللبناني نحو أيّ ايديولوجيا هو انحراف مؤقّت. ولكن، معظم الايديولوجيّات التي اجتاحت الساحة اللبنانيّة وجدت لها بيئة حاضنة لدى الطوائف المبنيّة معتقداتها على الدين والعقيدة التي من طبعها أنّها دائمة وشاملة. فلنأخذ مثلًا حالة داعش السياسيّة المبنيّة على ايديولوجيّة دينيّة، أو حالة الثورة الإيرانيّة المبنيّة على ايديولوجية الدولة الاسلاميّة لولاية الفقيه. للأسف اللبناني الذي كان يغزو أوروبا بلبنانيّته أصبح اليوم متسوّلًا فيها.
نأتي تاسعًا، إلى معنى لبنان الفكري والمتواضع في الشرق الأوسط وفي العالم. صحيح أنّ الكاتب يقرّ بتواضع لبنان في هذا المجال مقارنة مع دول الغرب الأوروبي، ولكن حتى ما وهو متواضع فقدناه اليوم، هكذا كلام كان ليصحّ زمن الكبار من قامة الكاتب الدكتور شارل مالك. أمّا اليوم فنحن في مرحلة الضمور الفكريّ القاتل. أبسط الأمور أنّ الناس لم تعد تقرأ. وستجد، للأسف، جيلًا كاملًا لم يسممع حتّى بشارل مالك.
وأخيرًا وليس آخرًا مسألة إسهام لبنان في المعترك الدولي. لعب لبنان دورًا مهمًّا في الدفاع عن القضايا العربيّة وفي طليعتها القضيّة "الأمّ"، فلسطين، ولكن دفع هذا البلد الصغير أغلى الأثمان نتيجة ذلك، شهِد على الكثير منها الدكتور مالك أثناء الحرب اللبنانيّة. والحقيقة تقال، لو أعدنا النظر في هذا النضال وقِسناه وفقًا للمصلحة اللبنانيّة العليا لوجدنا أنّنا دفعنا الغالي في ما لا ناقة لنا فيه ولا جمل. بالتأكيد، لا يستطيع الإنسان أن يتنكّر للقضايا الحقّ، إنّما ليس على حساب وطنه وأهله فهُمُ الحق الأَولى من غيره.
هذه العناوين أو الخصائص العشر، يدعوها د. مالك بالأعمدة التي إن سقطت أو سقط أحدها أو انتفى، يسقط لبنان وينتفي من الوجود.
أعتقد أنّنا في كلِّ ما سبق قد بيينّا السقوط المدوي لهذه الأعمدة ، إن لأنّها لا تمتّ إلى واقع تركيبة لبنان الحقيقيّة بصلة أو لأنّ معطيات الزمن والديموغرافيا السياسيّة قد تغيّرت وتبدّلت .
ولكن الملفت أنّ الدكتور مالك لا يأتي على ذكر الطريقة للحفاظ على هذه الخصائص، إذ يبرّر بالقول أنّ "هذا الأمر يأتي خارج النطاق الذي رسمه لهذا البحث". جيّد، نحن كفدراليّين ربّما لدينا طريقة للحفاظ على هذه الخصائص، إن صحّت، وعلى لبنان كوحدة جغرافيّة متماسكة، ضمن نظام فدرالي مبني على الإثنو-جغرافيا. بحيث يبقى لكلّ مكّون خصائصه يحيا بها ويعبّر عنها ضمن انفتاحه على باقي المكوّنات وعلى العالم، دون الحاجة لرسم خصائص للبنان لا توُجِدهُ بلدًا إلّا في الأشعار والأغاني لا على أرض الواقع.
إنّ قصدي ممّا كتبت ليس انتقاد الدكتور مالك، فلست أجرؤ على مقارعة هامة فكريّة فذّة بهذا الحجم، إنّما مناقشة الأفكار التي أوردها في مقاله، لأنّ بمناقشة الكبار ازدياد لنا في الكِبر ونموًّا في الفِكر. نقاشي لهذه الأفكار موجّه إلى رعيل من أبناء بلدي لبنان، صغارًا وكبارًا، وأنا منهم، تربَّوا على أفكار رومنطيقيّة عن لبنان لا تمتّ للواقع الحقيقي بصلة، إذ حصل أنّه، عندما اكتشفوا الواقع الحقيقي أصيبوا بخيبات أمل، والذين لم يكتشفوه بعد لا زالوا يحلمون بلنبان رسالة، أو وطن إنسان، أو، أو ... لهؤلاء أوجّه كلامي عسى أن يخرجوا من الكذبة إلى الواقع و"الحقيقة" الّتي من غيرها لا يستطيع الإنسان أن يكون حُرًّا. لأن الذئب خلف الباب ونحن سكارى نُغنّي.