هشام بو ناصيف
تحريض بعض اللبنانيّين ضدّ بعضهم الآخر خيانة بأيّ وقت. هذه الخيانة مزدوجة اليوم لسببين: الأوّل، هو أنّنا بلد مسلوب السيادة، والاستقطاب الداخلي يصبّ موضوعيّا بخدمة القوّة الخارجيّة المهيمنة علينا عبر وكيلها المحلّي. من سياسات الحكم العثماني في القرن التاسع عشر، الى سياسات النظام الإيراني حاليًّا، مرورًا بالانتداب الفرنسي، ومنظّمة التحرير، والنظام السوري، هناك ثابتة تتكرّر في تاريخنا بدقّة تحاكي دقّة الرياضيّات: الهيمنة الخارجيّة على لبنان تمرّ عبر تسعير الاستقطاب الداخلي بين طوائفه؛ والتخلّص من الاحتلال يفترض حدًّا أدنى من التلاقي العابر للطوائف ضدّه. باختصار: بقدر ما يكره اللبنانيّون بعضهم بعضًا اليوم، بقدر ما يحكمون على أنفسهم بالبقاء ساحة لتصريف سياسات النفوذ الإقليمي، وأشدّها ضررًا عليهم سياسات ايران.
وأمّا السبب الثاني لرفض الاستقطاب اللبناني – اللبناني اليوم فهو أنّ اللبنانيّين، ليسوا فقط مسلوبي السيادة، بل أيضًا منهوبون. الاستقطاب الطائفي يصبّ موضوعيًّا بخدمة العصابة السياسيّة – المصرفيّة – الإعلاميّة التي اتّفقت على نهبهم، واختلفت، إذ اختلفت، على حصّتها من الغنيمة. وبمقدار ما يتعمّق الاستقطاب المجتمعي من تحت، بمقدار ما يسهل الفرار من العقاب من فوق. هذه بدورها معادلة قديمة – جديدة. باختصار، البديل عن التلاقي في الوسط وتعزيز ما يجمعنا كلبنانيّين هو تأبيد بقائنا تحت نيرين: الهيمنة الإيرانيّة من الخارج، وعصابات السرقة والنهب المنظّم في الداخل.
والحال أنّ التحريض، بما هو خيانة أخلاقيّة تساهم بتأبيد المأساة اللبنانيّة وتعميقها، يلتقي موضوعيًّا مع خيانة فكريّة يظهّرها اجترار الشعارات، والكسل الفكري، وطوفان الكليشهات على عقول اللبنانيّين لتسطيحها. لا، يا أصدقاءنا العلمانويّين، العلمنة ليست حلّا لإدارة تنوّعنا الطائفي، لأنّ الطائفة ليست دينًا، ولأنّ الخلاف بين اللبنانيّين ليس دينيًّا. لا، أيضًا، لا يمكن اختصار كلّ المأساة الحاليّة بالمسألة الاقتصاديّة – الاجتماعيّة، كما تفعل قوى بديلة تبدو أقرب إلى نقابات عمّاليّة منها إلى أحزاب يفترض أن تقدّم تصوّرًا سياسيًّا للحلّ، وبرامج. ولا، أيضًا وأيضًا، الاصلاح مستحيل إن لم نسترجع السيادة والدولة، لأنّ النواة الصلبة للنظام حارسة فساده وفاسديه. تاليًا، المطالبة بحصريّة السلاح بيد الدولة، عدا عن كونها سليمة من ناحية وطنيّة، ضروريّة من ناحية اصلاحيّة. ولا، أخيرًا، الحياد لا يعني منع أفراد لبنانيّين من التعبير عن آرائهم بالقضايا الاقليميّة لو أحبّوا، وهو ليس "انعزالًا" وعنصريّة، تمامًا كما أنّ الفدراليّة ليست بالضروة إثنو – فدراليّة، عدا طبعًا عن كونها ليست تقسيمًا بأيّ حال.
في المشهد اليوم قوى بديلة بأفكار كهلة ولو أنّ أعضاءها شبّان. اللغو بالعلمنة، والحقوق الاقتصاديّة، والتغيير، الخ، من خارج المسألة السياديّة رداءة فكريّة. الإيحاء بأنّ مسألة حصريّة السلاح مجرّد مسألة إشكاليّة من بين مسائل أخرى بالأهميّة نفسها، أو أهمّ، خيانة لدماء كلّ ضحيّة بريئة سقطت نتيجة هذا السلاح، بالاضافة طبعًا إلى كونه كذبًا موصوفًا. ومع الاقرار بأنّ الخلاص لا يتعلّق بنا فقط، بل بظروف دوليّة مؤاتية، قد تأتي قريبًا، أو لا تأتي، يبقى أنّ أحدًا لن ينقذنا غصبًا عنّا. هناك دور لنا وواجبات تقع علينا تجاه أنفسنا أوّلًا. أولى هذه الواجبات الابتعاد عن كلّ ما يخدم مصلحة المهيمنين علينا بالوكالة، ومصلحة من نهبنا، ولا يزال. وأمّا الواجب الثاني، فهو الخروج من علك الشعارات، واستبدال الكليشيه بالتفكير البارد بقضايانا ومشاكلنا. ليست هذه أوّل مأساة تمرّ علينا، ولعلّها حتّى ليست أقساها: ربع اللبنانيّين قضوا جوعًا زمن المجاعة الكبرى، ثمّ انتفضنا. لعلّنا ننتفض مجدّدًا، ولعلّنا، من داخل المأساة الحاليّة وضدّها، نفرز تصوّرًا للحلّ يجعلها، لو تغيّرت المعطيات الخارجيّة، خاتمة مسلسل أحزاننا الطويل.