أنطوان صليبا - التضامن الفدرالي اللبناني السوري ضرورة

أنطوان صليبا (إسم مستعار)

فرضت الطروحات الفدراليّة نفسها مجدّدًا على مجتمعات دول المشرق خلال العقد الأخير جراء عوامل من بينها تفكّك "الدول الوطنيّة" كنتيجة للحروب الأهليّة والنزاعات الداخليّة. هذه الحروب الصريحة أو المضمرة، والنزاعات الداخليّة، لم تتوقف أبداً منذ نشوء هذه الكيانات السياسيّة غير المتجانسة، ذلك أنّ نزاعاتها الداخليّة غالبًا ما تنتهي إلى شكل حكم تتغلّب فيه جماعة منها بالقهر والعنف على جماعاتها الأخرى.

تتدرّج الطروحات الفدرالية من مستقرّة ومدسترة كما في حالة إقليم كردستان العراق، وأخرى في طور النشوء كالإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا والتي تمثّل حالة "الديفاكتو" القابلة للانتقال إمّا إلى الاستقرار أو الاخفاق، أو طموحات في الفدرلة التي ما تزال في طور المشاريع السياسيّة الناشئة كحركة "لبنان الفدرالي" والتي باتت تكتسب زخمًا شعبيًّا في الشارع المسيحي اللبناني بانتماءاته السياسيّة المختلفة، علاوةً على طروحات فدراليّة وكونفدراليّة لا تزال دون مستوى التنظير الفعلي لها، تفتقر للزخم الحقيقي كتلك المقترحة لحلّ القضيّة الفلسطينيّة.

تاريخيًّا، عاشت شعوب المشرق على الدوام حالة من تواتر الأفكار السياسية وشيئًا من "الأثرة والتأثّر" بتعبير ابن خلدون؛ ففي عشيّة انهيار الدولة العثمانيّة، تأثّرت شعوب المشرق وحركاتها القوميّة ببعضها، وتحرّكت الشعوب ككتل متوازية ساعية لنيل استقلالها عن "الرجل المريض"، لكن قبل ذلك سعت الحركات القوميّة داخل الدولة العثمانيّة إلى إحداث إصلاح سياسيّ واجتماعي يمرّ عبر طرح اللامركزيّة، والحقّ في الحكم الذاتي. في الأثناء ثمّة صورة من ذلك تتكرّر، ويمكن تلمّس ذلك في حالة الكتل الماضية باتّجاه المطالبة باللامركزيّة/الفدراليّة في المنطقة بعد أن فشلت "الدول الوطنيّة" (الدولة المستحيلة) في استحداث هويّات وطنيّة قائمة على المساواة والمواطنة، ووقوعها تاليًا في فخّ استجلاب الاحتلالات الأجنبيّة وتحوّل قواها المسلّحة المحليّة إلى سلطة احتلال داخلي يحتكم على كلّ وسائل العنف.

يعمّ الساعين إلى اللامركزيّة شعور بالتضامن مع التجارب الفدراليّة في المنطقة، حيث نرى كردستان العراق في أكثر من مناسبة تقف بجانب فكرة اللامركزيّة في سوريا، وبمعزل عن الخلافات الكرديّة في العراق وسوريا وهي إيديولوجيّة في معظمها، إلّا أنّ أربيل والسليمانيّة تدعمان فكرة الفدراليّة للمناطق الكرديّة في سوريا، في الوقت الذي تسعى فيه الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا إلى نيل اعتراف دولي من خلال الاشتباك مع ملفّات أساسيّة معلّقة: محاكمة معتقلي داعش، وملفّ عودة اللاجئين السوريين من لبنان إلى مناطق الإدارة، حيث أعلنت الإدارة رغبتها باستقبالهم عبر مبادراتها المتلاحقة والتي تلقّفها الجانب اللبناني أخيرًا؛ فاجتمع وزير الخارجيّة اللبناني بممثّلين عن الإدارة لتباحث القضيّة ما دفع الحكومة السوريّة عبر إعلاميّين تابعين لها لشجب تصرّف الخارجيّة اللبنانيّة.

يبدو أنّ التجربة اللامركزيّة في سوريا نجحت، حتى اللحظة، في تكريس حضورها كقوّة انتصرت على داعش وأبعدت تغوّل النظام السوري والميليشيات الإيرانيّة عن شمال شرقي سوريا، وأسّست لنموذج يمكن وصفه بالحداثي، والقابل للحياة والتطوّر، رغم كل المعوقات والتهديدات التركيّة الوجوديّة. أمّا في لبنان يمنح تراجع الدولة اللبنانيّة لصالح تغوّل "حزب اللّه" زخمًا للحركة الفدراليّة، ويتحوّل ناشطوها من مجرّد مناصرين لفكرة تغيير النظام المركزي، إلى فاعلين سياسيّين وقوّة تغيير، إلى ذلك تبدو حركة "لبنان الفدرالي" الّتي تحاجج بصحّة طرحها، واعتباره واحدًا من العلاجات المحتملة لأمراض الدولة المركزيّة العاجزة اليوم عن لعب أي دور خدميّ أو أمني.

والحال قد تؤمّن لامركزيّة لبنان صيغة جديدة لشعاريّ السيادة والاستقلال اللّذين باتا شعار الدولة اللبنانيّة الهشّة، وجزءًا من رطانة خطابها الفارغ. صحيح أنّ آفاق الفدراليّة في الحالة السوريّة، بالنظر إلى طبيعة صراعها الأهلي وتراجع دور الدولة المركزيّة، متقدّمة على ما يمكن توقّعه في المقلب اللبناني، ذلك أنّ اللامركزيّة في حالة الإدارة الذاتيّة باتت تحتكم على جغرافية واضحة وقوّات أمنيّة وعسكريّة وتحالفات دوليّة وازنة، الأمر الذي صدّرها كنموذج ملهم لبقيّة المناطق السوريّة. لكن ذلك لا يعني التقليل من شأن الحراك الفدرالي في لبنان، ولا من آفاق بلوغ الفدراليّة فيها، إذ إنّ مؤيّدي فدرلة لبنان، ورغم أنّهم لم يُنشئوا بعد حزبًا سياسيًّا يعبّر عن أهداف حركتهم، قد حقّقوا اختراقًا ملحوظًا داخل كلّ التيارات السياسيّة اللبنانيّة، لاسيّما المسيحيّة منها، ما يعني أنّ تكتيك التحرّك كحركة أو كتيّار اجتماعي-سياسي مفيدٌ مرحليًّا، وقابل للاستدامة، ففي هذه الغضون يمكن سماع الأصوات التي تتداول فكرة فدرلة لبنان داخل العديد من الأحزاب وإن على استحياء كما في حالة القوى المسيحيّة.

والحال أنّ خصوم الفدراليّة في سوريا ولبنان على تنوّع توجّهاتهم السياسية وولاءاتهم الخارجيّة هم الطرف الغالب حتى اللحظة، وذلك لاعتبارات قد يكون من بينها أنّهم إمّا شركاء في منظومة فساد وزبائنيّة عميمة، أو محكومون بالأحلام الوطنيّة الرومانسية المنتفخة بالمركزيّة والسلطويّة. فيما يحاجج أصحاب النزعة المركزيّة والمهجوسون بالوحدة الترابيّة بعدم نجاعة الطرح الفدرالي أمام واقع ديموغرافي وسياسي شديد التعقيد، وأنّ الفدراليّة هي مقدّمة لحركات انفصال تنهي الكيانات القائمة، والأنكى من ذلك أنّ الفدراليّة قد تؤدي إلى "تدخّلات خارجيّة" كما يزعمون، فيما المفارقة هي أنّ التدخّل الخارجي حصل بفعل الدولة المركزيّة،

وبحسب واحدنا أن يلحظ التدخّل والهيمنة الإيرانيّة في لبنان وسوريا، مضافًا إليها التدخّل الروسي في حالة الأخيرة. أمام هذا الارتباك الداخلي، وفشل الدولة المركزيّة، ثمّة ضرورة لبلوغ حالة من التنسيق والتضامن، بين الجماعات والحركات والأحزاب الساعية لإقامة الفدراليّة في سوريا ولبنان، ذلك أنّ استدامة الهيمنة الخارجيّة باتت قائمة على استدامة الدولة المركزيّة نفسها، في عمليّة تبادل منافع بين القوى الخارجيّة والحكومات المركزية الهشّة، لكن العصيّة على التغيير. وعليه قد تكون الفدراليّة هي الجواب الموضوعي على سؤال السيادة المنتهكة والاستقلال المفقود.