ادمون بخّاش - إعادة قراءة لكتاب "لبنان: المفهوم والتحدّيات." (جزء 2)

إدمون الياس بخّاش

هذه المقالة تأتي أيضًا ضمن إعادة القراءة لكتيّب "لبنان: المفهوم والتحديات" الذي سبق أن عرّفنا به في مقالنا السابق على صفحة لبنان الفدرالي، إنّما هنا سنتناول المقالة الثانية التي وردت في نفس الكتيّب والتي هي أيضًا بقلم الدكتور شارل مالك وبعنوان، "ظاهرة الأقليّات في الشرق"، والمستلّة من مجلّة الفصول اللبنانيّة، العدد 1، شتاء 1980.

المقالة مكوّنة من جزئين، في الأول، يتناول الكاتب ظاهرة الأقليّات في الشرق الأوسط بحدِّ ذاتها و يرى أنّه عبارة، أي الشرق الأوسط، عن تجمّع أقليّات استمرّت بهذه الحال على مرّ التاريخ، إذ لم يستطع أيّ غازٍ آتٍ من الخارج أو حركة أو حكم نابعان من الداخل أن يغيّرا هذا الواقع وهذه التركيبة، لا في المنطقة ولا في أيّ بلدٍ منها. أهميّة هذه الأقليّات الدينيّة، وأختلافها عن الأقليّات الساسيّة أو الإثنيّة أو الثقافيّة، تنبع من الله ذاته، في أمرها، هوالمسألة. هو إذًا واقع يستحيل بحسب الكاتب أن يتغيّر، مهما حاول المحاولون، وعلينا التكيُّف معه.

يستكمل الدكتور مالك عرضه للظاهرة ويقول: " الشرق الأوسط لا ينفرد، ولا يتميّز، بالعلم أو الفنّ، أو الفلسفة، أو الصناعة، أو الأدب، أو بالنظم السياسيّة، أو الإختراعات، والاكتشافات. ولذلك لا يتّجه إليه العالم بشأن أيّ من هذه الصناعات. صناعة الشرق الأوسط الأولى إن لم تكن الوحيدة هي الدين [...] الشرق الأوسط هو إنسانيًّا، وكيانيًّا، وتاريخيًّا، وحضاريًّا، هو مهد الديانات العالميّة".

ويستخلص في المحصّلة إلى أنّ مشكلة الشرق ليست إلّا مشكلة أقليّات وإلى كيفيّة التأقلم مع واقع الأقليّات هذا وإلى كيفية إقناع أيّ أكثريّة من أيّ جهة كانت بالعدول عن مغامرة إخضاع الأقليّات الأخرى والتي قد يعود تواجدها في المنطقة إلى آلاف السنين. لا بدّ لي من القول هنا أنّ الدكتور مالك هو صاحب نظرة مستقبليّة ثاقبة والذي يؤكّد ذلك هو وضع الأقليّات المسيحيّة والدرزيّة في لبنان في ظلّ تعاظم الازدياد الديموغرافي الشيعي، وأيضًا وضع الأقليّة الشيعيّة في المحيط السني العربي الواسع الذي يتخطى الشرق الأوسط إلى المحيط غربًا وإلى الخليج شرقًا.

ويعدِّد الدكتور مالك الخمس طرق المطروحة في أيّامه للتغلّب على ظاهرة الأقليّات وهي: القوميّة، العلمنة، الشيوعيّة، الماركسيّة، والاكتساحيّة الدينية. يبدأ بتعريف كلّ منها ثم يحاول تبيان فشلها أو عدم جدواها في التغلّب على ظاهرة الأقليّات.

يقول بأنّه يستحيل على القوميّة أن تصهر الأقليّات وخصوصًا في لبنان لأنّها أقليّات دينيّة بطابعها "والله لا يُصهر في بوتقة أيّ شيء بشري"، ويضيف، أنّه لم يشهد حتّى في العالم الغربي، منبع الفكر القومي، على قوميّة نجحت في تذويب ظاهرة الأقليّات.

أمّا الشيوعيّة (في وقتها الاتّحاد السوفياتي) فلم تنجح، رغم محاولات القمع والاضطهاد ضدّ المسلمين والمسيحيّين، في جعلهم يتركون دينَهم أو مذهبَهم.

ويُحيّي الدكتور مالك سعي الماركسيّة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة، ولكنّه يتساءل إن استطاعت الماركسيّة بإلحادها القضاء على الإيمان وبالتالي على الأقليّات وتمّ تحقيق الرخاء والعدالة، كيف سيمَسّ ذلك أنانيّة الانسان وجشعه وكبريائه وحسده وعجرفته إلخ؟ هذه الحالة الانسانيّة لا يتناولها إلّا الدين الصحيح. يرى الدكتور مالك أنّ لجوء المسيحيّين في الشرق إلى قوميّة ما هو إلّا محاولة هروب من حقيقة كونهم أقليّة عرضة للاضطهاد الدائم من الأكثريّات.

أمّا الاكتساحيّة الدينيّة، وتعني أن يكتسح دين معيّن الأديان الأخرى في المنطقة، فتزول بذلك مشكلة الأقليّات. تصوُّر الدكتور مالك أن ولا واحدة من الديانات السماويّة الثلاث ستزول قريبًا أو حتّى في المستقبل البعيد فوجودها سرّ رهيب. أمّا ما حصل من اكتساح المسلمين للمسيحيّين في الشرق في بدء الفتوحات الاسلاميّة، فيرى مالك أنّه صعب الحصول اليوم في الشرق. هنا، سأسمح لنفسي بمخالفة الدكتور مالك في رأيه، لأنّ ما شهدناه مؤخّرًا من حركات التطرّف الإسلاميّ في المنطقة، وممارساتها بحقّ الأقليّات المسيحيّة والأزيديّة في العراق وسوريا، لا يبشّر بالخير، خصوصًا، أنّ المرجعيّات الاسلاميّة لم تَجمع على رأي واحد يجرّم أو حتّى يدين ما قامت به هذه الحركات من أفعال إجراميّة.

يختم الكاتب مقاله بالتأكيد على بطلان الطرق الخمس، السابق ذكرها، بتصفية الأقليّات "لذلك فالشرق الأوسط، ولبنان، سيبقيان إلى ما شاء الله تعدّديّين في الثقافة والدين".

صحيح أنّ الدكتور مالك يؤكّد على التعدديّة الدينيّة في الشرق وفي لبنان، لكنّه لايعطي ولو طريقة واحدة تضاف إلى الطرق الخمس، التي ذكرها، تصلح للحفاظ على هذه التعدّديّة، وبالتالي على الأقليّات.

سأسمح لنفسي بأن أضيف طريقة سادسة، قد تساهم في حلّ مشكلة الأقليّات، وهي ببساطة الفدراليّة.

لماذا الفدراليّة؟ لأنّها أثبتت عمليًّا وبالخبرة المعاشة في العديد من البلدان التعدّديّة التكوين الاجتماعي، أنّها الطريقة الأفعل لإدارة هذه التعدّديّة إجتماعيًّا، وتشريعيًّا، وسياسيًّا. وخصوصًا التعدديّة الطائفيّة في لبنان، لأنّه كما سبق وبرهن الدكتور مالك، أن لا القوميّة ولا العلمنة، وهما مطروحتان حاليًّا في لبنان، صالحتان لحلّ مشكلة الأقليّات. أمّا في الفدراليّة، فكلّ مكوِّن مسمّى أقليّة في النظام المركزي الحالي لن يكون كذلك ضمن الكنتون المتواجد فيه جغرافيًّا.

هل تطبيق هكذا مشروع أمر ممكن؟ ببساطة نعم، لأنّه يوجد اليوم طرق عمليّة وعلميّة لتحقيق ذلك، ليس المجال متاحًا هنا لعرضها، ولكن القارئ الكريم المهتمّ للأمر يستطيع أن يتصفّح صفحة لبنان الفدرالي، التي تنشر هذا المقال، ليجد مقترحات لكيفيّة تتطبيق ذلك.

في الختام، آمل من جميع اللبنانييّن أن يقرأوا التاريخ، لا كي لا يعودوا إلى الحرب الأهليّة كما نصحهم أحدهم، ولكن كي يأخذوا العِبر التي قد تكون مرتكزًا فعّالًا لإيجاد الحلول السياسيّة والاجتماعيّة لواقعهم المعاش فيخلصوا ويَخلُصَ لبنان . والعبرة لمن اعتبر.