نالت قضيّة حرق المصحف في السويد على مدى الأسابيع الماضية، قسطاً ملحوظاً من الإهتمام على الصعيدين الديبلوماسي والسياسي. وكان مهاجر عراقي قد أقدم على حرق مصحف خلال مشاركته في مظاهرة في السويد، بعد أن منحت له الدولة رخصةً لهذا الغرض. وأتى قرار الدولة السويدية إنسجاماً مع أحد قوانينها التأسيسيّة الأربع وهو قانون حرّيّة التعبير. إنّما ذلك لم يقِ ستوكهولم من ردود فعل العالم العربي والإسلامي، حيث سبّبت لها القضيّة أزمةً ديبلوماسيّةً مع معظم الدول الإسلاميّة، تفاقمت حتّى آلت الأمور إلى حرق السفارة السويدية في العراق.
وتُطالب الدول الإسلاميّة المستاءة، عمليّاً، أن تُقيّد السويد حرّية تعبير مواطينها التي أضحت بعض ترجماتها "تمسّ مشاعر المسلمين حول العالم". وسط هذه الأجواء المشحونة، الظاهرُ أنّ قضيّة فلسطين أمست أقلّ "مركزيّة" لدى العرب والمسلمين المستائين. فاحتلّت "مشاعرهم" مكانها، بحيث اختاروا توتير علاقاتهم مع دولة غربيّة تضامنت مع الشعب الفلسطيني تضامناً حقيقيّاً، على عكس الكثير من تجّار وسماسرة القضيّة في العالم العربي والإسلامي، وذلك فداء "مشاعرهم" التي "مُسّت" بحرق مصحف.
بدأت مؤشرات التعاطف السويدي مع القضيّة الفلسطينيّة تظهر في أواخر أربعينات القرن الماضي، وتحديداً عندما كلّفت الأمم المتّحدة آنذاك، الكونت السويدي فولك برنادوت، مهمّة الوساطة ما بين الفلسطينيّين المنكوبين والإسرائيليّين الوافدين. وتقدّم حينها برنادوت بخطّة عُرفت بـ"خطّة برنادوت"، أكّد خلالها على حقّ الفلسطينيّين الكامل بالعودة إلى أراضيهم، كما اعترف بموجبها بسيادة الفلسطينيّين على مدينة القدس. إنّما ذلك لم يلقَ استحسان الإسرائيليّين الّذين أسقطوا الخطّة. أمّا بالنسبة إلى برنادوت، فنجحت عصابة إسرائيليّة متشدّدة في اغتياله، إذ رأت أنه كان منحازاً للفلسطينيّين أثناء قيامه بمهمّته.
واستقبلت ستوكهولم منذ ذلك الحين، آلافاً من الفلسطينيّين، اللّذين نالوا في كنفها حقوقاً وفرصاً بما لا يُقارن مع ما تمكّنوا من الاستحصال عليه من حقوق في الكثير من الدول الإسلاميّة والعربيّة. فكم من فرقٍ شاسعٍ بين ما أُعطي من فرصٍ لشابة مثل تمام أبو حميدان، المهاجرة من غزّة، التي أصبحت أوّل فلسطينيّة تشغل منصب رئيسة مجلس بلدي في جنوب السويد، وما أُعطي للشباب الفلسطينيّين في معظم الدول العربيّة حيث يعانون من التمييز والحرمان منذ عقود طويلة دون أن "يمسّ" ذلك "مشاعر المسلمين حول العالم".
بعد طول انتظار، عام 2014، قُدّر للتعاطف السويدي تجاه القضيّة الفلسطينيّة أن يُترجم إلى واقع سياسي ودبلوماسي، إذ أعلنت السويد عامذاك اعترافها بدولة فلسطين، لتُصبح الدولة الغربيّة الوحيدة إلى جانب دولة آيسلند الصغيرة، التي تُقدم على هذه الخطوة. وعلى الرغم من انتقال الحكم في السويد إلى اليمين بعد ذلك، ظلّت الحكومة السويدية الجديدة متمسّكة باعترافها بدولة فلسطين.
بالحقيقة، إنّ الفعل الذي اقترفه المهاجر العراقي في السويد أثار غضب الكثير من المسلمين حول العالم وهذا أمر مفهوم، إذ إنّ هذا الفعل لا يُشكّل طريقةً راقيةً بالتعبير عن الرأي. إنّما ذلك لا يُبرّر المبالغة في الردّ التي صدرت عن الدول الاسلاميّة والعربيّة وعن شعوبها. فالسويد دولة وقفت إلى جانب الفلسطينيّين ودعمت "القضيّة المركزيّة" للعرب والمسلمين بأشكال مختلفة وفي محطّات عديدة. كما استقبلت، إضافةً إلى الفلسطينيّين، عشرات آلاف العرب والمسلمين الّذين ينعمون على أرضها بحرّية التعبير، تماماً كما ينعم بها حارق المصحف.
ختاماً، تلعب المشاعر دوراً كبيراً في الكثير من المهن والميادين، إنما عندما تدخل في السياسة، تُفسدها وتُعيق تحديثها ولن يستطيع أيّ مظهر من مظاهر الازدهار المعيشي أو النمو الاقتصادي أن يُعوّض عن فشل الأغلبيّة في مجتمعاتنا في الارتقاء إلى مرحلة الحداثة السياسيّة البعيدة عن الغرائز والمشاعر والتلقائيّة.