تستحقّ مقابلة الصحافيّة نوال نصر مع الوزير عصام نعمان اليوم في "نداء الوطن" القراءة. لا لأنّ عصام نعمان مهمّ بذاته، أو لانّه كشف فيها معلومة جديدة. المقابلة جديرة بالقراءة لأنّ نعمان يقدّم بصفحة واحدة في جريدة ملخّصًا للخصائص الأساسيّة التي طبعت مسيرة ما اصطلح على تسميته بـ"اليسار اللبناني"، وهي تجربة مستمرّة إلى اليوم بخطاب عام وطريقة تفكير حول مسائل أساسيّة بحياتنا الوطنيّة، وإن لم تعد موجودة تنظيميًّا.
وأمّا الخصيصة الأولى لـ"اليسار اللبناني"، فهي استعمال حجّة "محاربة الطائفيّة" ضدّ القوى المسيحيّة حصرًا. من مطالعة المقال، نفهم أنّ نعمان تحالف طوال حياته مع أساطين الطائفيّين اللبنانيّين، الّا أنّ توصيفه للقوى الطائفيّة ينحصر عمليًّا ب"الجبهة اللبنانيّة"؛ يقول نعمان إنّه رفض ذات مرّة التوزير كي يتجنّب الجلوس مع ممثّلي "الجبهة" على طاولة واحدة. قبل التوسّع بهذه النقطة، لنقرأ هذا المقطع عن سليم الحصّ - يصفه نعمان ب"معلّمي" - من كتاب كريم بقرادوني "السلام المفقود"، الذي استعاد فيه تجربته كمستشار للرئيس الراحل الياس سركيس، ثم نعود لنعمان. يروي بقرادوني:
"بلغ الخلاف بين سركيس والحصّ تمامه في 9 حزيران 1977. وقد وصف الرئيس الاجتماع الذي عقد مع الحصّ في هذا التاريخ بأنّه كارثة. وقال: "هذا أسوأ اجتماع في حياتي. فقد جمّد الحصّ مسيرة تجديد بناء الجيش اللبناني إذ طرح موضوع الجيش من زاوية طائفيّة، وأيّد موقف مجموعة من الضبّاط المسلمين، في داخل الجيش اللبناني، تضامنوا مع الضبّاط المنحازين إلى جيش لبنان العربي. وبقي الحصّ مصرًّا على طرد عدد من الضبّاط المسيحيّين يعادل عدد الضبّاط المسلمين "باسم التوازن الطائفي"، وهذا غير مقبول في عرف الرئيس الذي أبدى استياءه وهو يروي لي هذا الخلاف وأضاف: "إنّه من الظلم أن نعامل على قدم المساواة الضبّاط المسيحيّين الذين قاتلوا دفاعًا عن الشرعيّة، وضبّاط مسلمين تمرّدوا على الدولة." (صفحة 122)
ويضيف بقرادوني نقلًا عن فؤاد بطرس حول المسألة نفسها:
"كان فؤاد بطرس في ثورة هوجاء. وروى لي إنّه قال للحصّ ما يلي: "إنّ الرئيس وأنت وأنا نمثّل استمرار الدولة. ونحن، شئنا أم أبينا، الخلفاء الشرعيّون والدستوريّون لسليمان فرنجيّة الذي تمرّد عليه الضبّاط المسلمون. فلا نستطيع أن نعامل الذين أطاعوا السلطات العسكريّة كما نعامل الذين عصوها. لا نستطيع أن نوازي بين اللبنانيّين الذين دافعوا عن أرضهم وكرامتهم، وبين الذين قاتلوا الى جانب الفلسطينيّين ضدّ الجمهوريّة ....ويوضح فؤاد بطرس رأيه قائلًا: "إنّ الحصّ متطرّف ومتعصّب، بدون أن يقدّم، في مقابل ذلك، غطاء اسلاميًّا للنظام. فالحصّ لم يعد يدافع عن سياسة سركيس، بل راح يجمدّها"....ولكنّ الحصّ بقي متبثًا بموقفه. وعمد إلى استنفار الزعماء المسلمين والحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة." (صفحة 123).
هذا الرجل، أي سليم الحصّ، "غير طائفي" بحسب عصام نعمان. من الطائفي إذًا؟ كميل شمعون وبيار الجميّل حصرًا. خبث ورياء؟ أكيد. والأهمّ: طائفيّة مضمرة وكراهية للمسيحيّين عبّر عنها نعمان لاحقًا بدعم مرسوم التجنيس الشهير باعتبار – كما قال لنوال نصر – أنّ العروبة لا تكترث لدين أو مذهب.
وأمّا الخصيصة الثانية لـ"اليسار اللبناني" كما يمثلّه نعمان، فهي الكذب الصفيق، واستغباء الناس. في المقابلة مع نصر، يبرّأ نعمان حافظ الأسد من تهمة اغتيال كمال جنبلاط، ويتّهم رفعت الأسد حصرًا، باعتبار أنّ حافظ الأسد "أذكى من أن يرتكب هكذا فعل" وهو، أي حافظ الأسد، "أصيب مرّتين بغيبوبة" آنذاك. بمعنى آخر، يريد عصام نعمان أن يقنع اللبنانيّين أنّ الوحش الضاري بالنظام السوري كان رفعت الأسد، أي شقيق الرئيس؛ وأمّا الحمل الوديع، أي الرئيس نفسه، فلا علاقة له بمسألة بحجم اغتيال كمال جنبلاط، وهي مرّت دون علمه، ودون أن يتخّذ بعدها أيّ اجراء بحقّ من ورّطه بالمسألة. كذب فاقع، طبعًا، ولعلّه يكون ضروريًّا ليبرّر نعمان علاقته اللاحقة بالأجهزة السوريّة، وتوزيره في عهد إميل لحّود، أي صعود نجمه خلال حقبة الحكم السوري للبنان. يمكن مقارنة نعمان، من هذه الزاوية، مع وجه آخر من وجوه الحركة الوطنيّة، عنيت محسن ابراهيم؛ والمقارنة، أخلاقيًّا، لصالح محسن ابراهيم طبعًا.
الخصيصة اليسارويّة الثالثة هي الاصرار على الشعارات المعلوكة البائدة، ولو أثبتت حركة المجتمع خطلها بدل المرّة ألف. تحديدًا، لا يزال نعمان يستعمل تعبير "القوى الوطنيّة" لتصنيف الأحزاب بلبنان. تقليديًّا، كان نبيه برّي من ضمن "القوى الوطنيّة"، والقواّت، مثلا، خارجها. السؤال: بماذا نبيه برّي "وطني"، وسواه "غير وطني"؟ أبمحاربة الفساد، مثلًا؟ أو رفض التدخّل الخارجي بأمور لبنان؟ بالحقيقة، هذه النقطة تلتقي مع الأولى، باعتبار أنّ القوى "الوطنيّة" اسلاميّة دومًا، أمّا الآخرين، فانعزاليّين، و"يمينيّين"، الخ.
الخصيصة الأخيرة هي انعدام النقد الذاتي، مع انّه، كشعار، يساروي بامتياز. يعلم القاصي والداني أنّ الغطاء الذي وفّرته قوى محليّة للمخرّبين الفلسطينيّين بالستّينات والسبعينات قاد لبنان إلى الهاوية. عصام نعمان كان بصميم هذا الخيار؛ ومع ذلك، ليس عنده كلمة واحدة لنقده بعد عقود عليه. الحقّ، كلّ الحقّ، على "الجبهة اللبنانيّة"....ودومًا طبعًا باسم "العروبة"، و"الوطنيّة"، وسائر المعزوفة.
ربّ قائل إنّ نعمان من الماضي ولا يستحقّ بذل الجهد لتفكيك خطابه. والحال أنّ الرجل فعلًا من الماضي، أمّا طريقة تفكيره فلا. شخصيًّا، أرى نعمان في خطاب حليمة القعقور، وابراهيم منيمنة، وسواهما. الطائفيّة المضمرة التي يعبّر عنها تعيش بخطاب حركة "أمل"، القوّة المذهبية بامتياز، والمصرّة مع ذلك على "الغاء الطائفيّة السياسيّة". باختصار، عصام نعمان يعبّر عن طريقة تفكير ومقاربة للشأن العام مستمرّة إلى الساعة. لا أعتقد أنّ شيئًا أساء إلى التجربة اللبنانيّة بقدرها هي.