سامر سويد
كان يمكن لأيّ مراقب عادي لموازين القوى بعد توقيع اتّفاقيّة القاهرة عام 1969 أن ينتبه أنّ التواجد العسكري الفلسطيني في لبنان بعيد عن تحقيق أيّ توازنٍ استراتيجيٍ مع إسرائيل، دع عنك أن يسمح بتحرير ولو شبرٍ واحد من فلسطين. لماذا ورطّت الفصائل الفلسطينيّة نفسها آنذاك، وورّطتنا معها بكلّ ما لحق؟ الجواب أنّ العقل الاستراتيجي شيء، وثقافة العنتريّات، واللغو اللفظي شيء آخر. بالحقيقة، العقل الاستراتيجي المحدود نفسه الذي زيّن لجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ركوب موجة المغامرة المشؤومة عام 1967، بنتائجها المعروفة على مصر، زيّن لاحقًا لقادة الفصائل الفلسطينيّة في لبنان ركوب موجة مغامرة مشابهة في لبنان، مع نتائجها المعروفة أيضًا علينا وعليهم. كيف يمكن لفصائل مسلّحة بصواريخ كاتيوشا لم تهدّد يومًا إسرائيل جديًّا أن تغيّر موازين القوى؟ وبأيّ حقّ كان ينبغي تعريض لبنان لكلّ ما تعرّض له، ومن أجل مغامرة معروفة النتائج سلفًا؟ أسئلة بديهيّة، ولكنّ العقل المقفل آنذاك لم يكلّف نفسه عناء طرحها أصلًا. بالنتيجة، أُحرق لبنان، وأُدخل عنوة أتون الحرب، ثمّ ضاق ذرع إسرائيل بالعنتريّات الفلسطينيّة، فحطّمت لبنان والفلسطينيّين معًا عام 1982.
مناسبة الحديث تصريح استوقفني البارحة لرئيس المجلس التنفيذي لحزب الله هاشم صفيّ الدين الذي يعتبر أن المقاومة أصبحت "جزءًا حقيقيًّا من الهويّة الثقافيّة الوطنيّة اللبنانيّة" (كذا). طيّب، لنسلّم مع صفيّ الدين أنّ الأمر صحيح، يبقى السؤال الطبيعي اللاحق: وماذا استفاد لبنان من ذلك؟ ألا يرى صفيّ الدين خراب البلاد حوله؟ الهجرة تقصم ظهر مجتمعنا الذي يفرّغ يوميًّا. اليأس عميم. الفقر مدقع. نحن دول فاشلة، أو نكاد نصير كذلك، وكلّنا يعلم معنى ذلك على الحياة اليوميّة للمواطنين. وماذا يعني أنّنا نطلق عنتريّات ضدّ إسرائيل دوريًّا؟ هذه السؤال البديهي كما كانت الأسئلة عن جدوى المقاومة الفلسطينيّة من لبنان وأثمانها علينا بديهيّة أيضًا. وتمامًا كما تجاهل قادة الفصائل هذه الاسئلة، يتجاهلها صفيّ الدين اليوم. استطرادًا: نحن بلد مقاوم، بينما الإمارات العربيّة وقّعت اتفاقيّة سلام مع اسرائيل. المقاومة لم تصبح جزءًا من "الهويّة الثقافيّة الوطنيّة" في الإمارات. حسنًا. من يستقتل للذهاب إلى الثاني: الإماراتيّون كي يأتوا عندنا، أم العكس؟ أي جامعات تتقدّم، وأيّ نظام تعليمي ينهار بأسره؟ الامارات وقّعت اتّفاقيّة سلام مع إسرائيل من ضمن نهضة شاملة تعمّ البلاد، يستفيد منه الإماراتيّون طبعًا، والملايين من العرب الّذين وفّر لهم الرخاء الاماراتي فرص العمل والرخاء. مصر بدورها كانت وقّعت اتّفاقيّات سلام مع اسرائيل بعد أن فهم القادة المصريّون أنّ المزيد من الحروب لن تعني سوى المزيد من الخراب للبلاد. في مصر، كما في الخليج، تفكير منطقي ووضع طبيعي لمصلحة البلد فوق أيّ لغو إيديولوجي. ماذا استفدنا نحن، بالمقابل، بعد خمسة عقود من "المقاومة"؟ تصدير الكبتاغون إلى البلاد العربيّة؟ ونعم الصيت! فقدان السيادة لمصلحة إيران؟ ونعم المصير! هي الخسارة الخالصة كيفما قلّبت الأمور، ولكنّ من يسمع صفي الدين يظنّ أنّنا ننتقل من انتصار لآخر. تمامًا كما أنّ حسابات الربح والخسارة لم تكن واضحة في روؤس قادة الفصائل الفلسطينيّة قبل عقود، لا يبدو أنّها كذلك في حسابات صفيّ الدين اليوم.
ومن الفصائل الفلسطينيّة بالأمس إلى حزب اللّه اليوم، الخيط الجامع هو هذا: الثمن الذي يدفعه البشر العاديّون من أجل "المقاومة"، وبسببها، لا يهمّ. المقاومة صارت من ثقافتنا الوطنيّة؟ ممتاز! كيف يعيد ذلك بناء القطاع المصرفي؟ كيف يخلق فرص عمل للشباب المتعطّل؟ كيف نصنّع التكنولوجيا أو أقلّه نستوردها؟ كيف نتقدّم؟ كيف نحلّ أزمة الكهرباء؟ كيف نُشبع شعبنا الجائع؟ الجواب الضمني لثقافة المقاومة أنّ كلّ ذلك لا يهمّ؛ وحدها المقاومة مهمّة، وليكن ما يكون. وفضلًا عن أسئلة الربح والخسارة على مستوى التنمية وحياة البشر اليوميّة، هناك أسئلة حول مواضيع كبرى من الأفضل أن تبقى غائبة كي يستقيم منطق المقاومة. مثلًا: هنالك ثمانية ملايين يهودي يعيشون في إسرائيل، ماذا ستفعل بهم؟ إلى أين يفترض أن يذهبوا، يعني؟ ثمّ أنّ التفوّق العسكري الغربي كاسح، والتزام الغرب بإسرائيل متين. كيف سنحرّر القدس وفق هذه المعادلة؟ روسيا لم تدافع عن العرب عام ١٩٦٧ولن تدافع في الغد عن إيران لو احتاجتها. أين نحن من هذه المعادلات وما قدرتنا على التأثير بها؟ أسئلة لن يطرحها صفيّ الدين طبعًا. ولكنّه لن يستطيع منع اللبنانيّين من طرحها.