لو قيّض لتعبير واحد أن يختصر جوهر حياتنا الوطنيّة منذ مهّد اتّفاق الهزيمة في الطائف لسيطرة الاحتلال السوري على لبنان، قبل أن تنتقل السيطرة لاحقا من الأسديّين الى الخمينيّين، لكان هذا: كأنّ شيئا لم يكن.
البارحة، خرج رياض سلامة مكرّما من مصرف لبنان على وقع أغنية "راجع يتعمّر لبنان"، محاطا بالطبل والزمر. صحيح أنّ هذا الرجل ليس كلّ العصابة التي حكمت لبنان منذ الطائف الى اليوم؛ ولكنّه كان لعقود ثلاثة سوداء مدير أعمال العصابة، وذراعها الماليّة. أقلّ ما يستحقّه سلامة هو محاكمة عادلة، ثمّ السجن. ولكنّنا نعلم سلفا أنّ شيئا من هذا لن يحدث، أليس كذلك؟ أموال المودعين التي ابتلعها الفساد الخرافي للطبقة الحاكمة هي بحقيقتها سنوات من أعمارهم، وجهود مبذولة لجمعها، غالبا في الخارج بعيدا عن عائلاتهم.لا مشهدا يختصر نظام الطائف بقدر مشهد خروج سلامة باسما من مبنى المصرف. المنهبة الكبرى التي كان في صلبها دمّرت أجيالا متعاقبة من اللبنانيّين، ماليّا ونفسيّا؛ ولكنّه خرج الى التقاعد المريح كأنّ شيئا لم يكن.
وكأنّ شيئا لم يكن، فقد أكثر من 220 شخصا حياتهم بانفجار المرفأ، وتمّ تهديد القضاء بعقره في قصر العدل، وشنّت الممانعة حملة شعواء على المحقّق العدلي طارق البيطار، وصولا الى "تجميد التحقيق" أي، فعليّا، وأده. بعد أيّام سيشارك لبنانيّون بالذكرى الثالثة على الجريمة تضامنا مع عائلات الضحايا، وانطلاقا من احساس بالواجب الأخلاقي تجاه الضحايا نفسها. ولكنّنا نعلم أنّ الجريمة مرّت، ولا عقاب.
وكأنّ شيئا لم يكن، تمّ تشويه وعي مكوّن لبناني بحجّة حلف الأقليّات، فيما سيق الالاف من شباب مكوّن آخر للقتال والموت كرمى لعيون آل الأسد بسوريا. وكأنّ شيئا لم يكن، هدر وزراء الطاقة المتعاقبون المليارات على الكهرباء، ولم نحصد سوى العتمة. وكأنّ شيئا لم يكن، صرنا بلاد الكبتاغون، والتهريب، والحدود الفالتة، والعلاقات المضطربة مع الديموقراطيّات الليبراليّة الغربيّة، ومع دول الخليج، وقيل لنا، وسط خرابنا العميم، أنّ الحلّ ب"التوجّه شرقا"، والزراعة على شرفات المنازل.
لماذا تسمح تركيبة سلطة الطائف بلبنان بكلّ ما سبق؟ لماذا، بمعنى آخر، يحكم منطق كأنّ شيئا لم يكن حياتنا الوطنيّة؟ الجواب متعدّد الأوجه:
أوّلا، نحن شعب فاقد السيادة على أرضه. اتّفاق الطائف سلّمنا لحافظ الأسد بحكم "العلاقات المميّزة" مع سوريا؛ والأسد، بدوره، سمح للسلاح الخميني بالنموّ حتّى بلغ شأوه ما بلغ، ما جعلنا عمليّا متراسا متقدّما لسياسات النظام الايراني الاقليميّة. لا يهمّ اليوم ما ترتكب جماعة ايران لبنان، تماما كما لم يهمّ بالأمس ما اقترفت جماعة سوريا: شرعيّة هؤلاء ودورهم مرتبطان بمرجعيّاتهم الخارجيّة، لا باللبنانيّين. قبل أيّ شيء آخر، منطق كأنّ شيئا لم يكن من ثمار فقدان استقلاليّة قرارنا الوطني لأنّ قلب الخامنئي ليس على اللبنانيّين، ولا قلب بشّار الأسد. هل يسأل هؤلاء عن المواطنين الايرانيّين والسوريّين كي يسألوا عنّا؟
ثانيا، نظام الطائف يضع الطوائف وجها لوجه، ما يسهّل على أبطال المنهبة الكبرى الاختباء ورائها، ومتابعة نهبها بحجّة حمايتها. رئيس بلديّة بيروت جمال عيتاني استقال البارحة، وأخبار الفساد والصفقات المشبوهة ببلديّة بيروت المفلسة تلاحقه. لكن، على افتراض صارت الانتخابات البلديّة، وعلى افتراض أنّ مرجعيّته السياسيّة قرّرت الخروج من اعتزالها لخوض المعركة بالعاصمة، فستخوضها على أساس الحفاظ على الأولويّة السنيّة في بيروت، وستربحها. ذلك أنّ مسألة الهويّة دائما أقوى من مسألة الاصلاح في مجتمع طوائفي لم تجد العلاقة بين مكوّناته طريقها الى الاستقرار بعد. وما هو صحيح بالنسبة لسياسات السنّة في العاصمة، صحيح أيضا بالنسبة لسياسات المسيحيّين والدروز والشيعة في كلّ مكان آخر من لبنان.
ثالثا، تراكم الحروب والاحتلالات والانهيارات أنتج ثقافة فرديّة بالمفهوم السلبي للكلمة، أي ثقافة ممالأة السلطة للحصول على منفعة خاصّة، ولو على حساب المنفعة العامّة. لسان حال فئة عريضة من اللبنانيّين أنّ المسؤولين الكبار أنفسهم ينهبون، ويهدرون، فلماذا سنمتنع نحن بحكم الرادع الأخلاقي، علما أنّ قدرتنا على ضرب المصلحة العامّة أقلّ بكثير من قدرة حكّامنا؟ هكذا ينشأ عقد ضمني بين نخبة تنهب كثيرا، ومواطنين يحصلون على فتات يضعهم عمليّا بموقع المستفيد من اللعبة، والممتنع تاليا عن محاسبة اللاعبين.
الحلّ يفترض ما يلي: 1) رفع الحماية الخارجيّة عن السياسيّين المحليّين، والطلاق النهائي مع وظيفة لبنان كساحة بالواسطة لحروب المنطقة، ومحاورها. يعني هذا، لو حصل، أنّ مرجعيّة السياسيّين اللبنانيّين ستنتقل من خارج الحدود الى المواطنين اللبنانيّين داخلها؛ وبعدها، بعدها فقط، يمكن محاسبة النخبة الحاكمة جديّا. 2) ادارة العلاقة بين المكوّنات وفق أسس جديدة تسمح لكلّ منها بتسيير أمورها ذاتيّا، بما في ذلك بقضايا الضرائب، والتنمية، وادارة الموارد. لا يوجد تصوّر آخر بديل لمنع النخب من التحجّج بمنطق "ما خلّونا"، واسترجاع الحقوق، وما شاكل. وبالحقيقة، مهما علا صوت شيطنتهم، أصحاب طرح الحياد والفدراليّة هم المعارضة الجديّة الوحيدة الموجودة بلبنان حاليّا.
كلّ ذلك يبدو نظريّا، وبعيد المنال اليوم، وهو فعلا كذلك. يبقى أنّ كلّ المشاريع الضروريّة الكبرى تبدأ كذلك، ثمّ تنتج تغييرا ان قيّض لها اثنين: مناضلون يسعون جديّا وراءها؛ وظروف خارجيّة مؤاتية.