جوزف بوشرعه - الموت الغريب للمواطن اللبنانيّ

جوزف بوشرعه

لقد ظنّ المحلّلون أنّ تفاقم الأزمة الاقتصاديّة، وما سينتج عنها من تفاوتٍ طبقيٍّ سيؤدّي إلى نشوء تكتّلاتٍ اجتماعيّةٍ سياسيّةٍ جديدةٍ تفرض نفسها على المجال العامّ. ولكنْ لم تتحقّق هذه "النّبوءات" بعد بلوغ مستوى المعيشة في لبنان حدودًا غير مسبوقةٍ. إذ تجاهل المحلّلون التّعاضد الطّائفيّ الطّبيعيّ الذي ينشأ في الحالات التي تعدّها الجماعات أو الإثنيات خطرًا وجوديًّا عليها. فأخفقوا في قراءة الوقائع التّجريبيّة، وسقطوا في التّمنّي المدفوع أيديولوجيًّا. وهكذا لم تحدث "ثورة الجياع" أو "انتفاضة الفقراء" التي بشّر بها أولئك المحلّلون الطّوباويّون، بل تحوّلت ديناميكيّة الخلاف إلى صراع إراداتٍ إثنودينيةٍ قوّضت آمال الشّبّان الجامعيّين البرجوازيّين في محاكاة كومونة باريس، كما أعلنت صراحةً موت "المواطن اللّبنانيّ". ولكنْ يبدو موت المواطن اللّبنانيّ غريبًا، وكأنّه مفهومٌ مستحدثٌ تلقّفه المراقب لامباليًا. والحقّ إن الغرابة المذكورة تتمثّل في موت شيءٍ لم يكن موجودًا أصلًا، أقلّه في المعنى الأنطولوجيّ الزّمكانيّ/الفعليّ.

ماذا يعني "موت المواطَنة"؟

تشير المواطَنة إلى العلاقة القائمة بين الفرد والدّولة التي قدّم ولاءه لها، وما يترتّب عليه من حقوقٍ وواجباتٍ فيها. لكنّ ديمومة المواطنة، بصفتها نتيجةً سببيّةً طبيعيّةً للعقد الاجتماعيّ، مشروطةٌ طبعًا بعناصرَ محدّدةٍ، حيث قد يحضر كلّها أو جزءٌ منها في الاشتراط، كالهويّة، اللّغة، الأدب، القيم... وإذا فُقِدت هذه العناصر الأساسيّة فنكون أمام تغيّرٍ جذريٍّ بلغ حدّ العقد الاجتماعيّ نفسه متجلّيًا في موت مفهوم "المواطن" واستبداله بقبليّةٍ كأنّها سبقت الحالة المدنيّة. ولعلّ المثل الأوضح الذي نعثر عليه في كتب التاريخ عن موت المواطنة هو ما حصل في الأمبراطوريّة الرّومانيّة حوالى القرن الخامس الميلاديّ، حيث بدأت تضعف الهويّة اللّاتينيّة التي أسّست نواة القوّة الرّومانيّة منذ مراحل الجمهوريّة الأولى، خصوصًا في الجزء الغربيّ من الأمبراطوريّة. وأهمّ العوامل التي ساهمت في موت مفهوم المواطنة عند الرّومان الغربييّن هو تغيّر طبيعة المجتمع الرّومانيّ بفعل تدفّق الجماعات والإثنيّات المختلفة إلى روما (وحدث ذلك عبر قرونٍ من الزّمن)، فلم تعد "الهويّة الرّومانيّة" تعني شيئًا، وما شكّل قيمةً في المواثيق القانونيّة تحوّل إلى فوضى قبليّةٍ في الواقع. بيد أنّ الأمرَ الغريبَ في مسألة موت "المواطن اللّبنانيّ" هو غياب هذا المفهوم أساسًا عن الخطاب السّياسيّ في لبنانَ، أي كأنّنا ننعي شيئًا لم يكن موجودًا.

المواطن اللّبنانيّ خرافةٌ مصطنعةٌ؟

بعد سقوط الأمبراطوريّة العثمانيّة وتوسيع حدود جبل لبنان وترسيخ ذلك في الدّستور، يُفترض أنّنا قد انتقلنا من كوننا رعايا إلى مواطنين. ولكنْ بقيت العلاقة بين الفرد والدّولة قبَليّةً، أي لم تبلغ المواطَنة "اللّبنانيّة" المفترضة. وفي هذا الإطار نستطيع فهم غياب المواطَنة "اللّبنانيّة" أساسًا، فالهويّة اللّبنانيّة التي رُكّبت سنة 1920 لم تكن سوى صنيعةٍ سياسيّةٍ حتّمتها الضّرورات الاقتصاديّة والجغرافيّة آنذاك في مرحلة ما بعد "كفنو" (المجاعة)، أمّا ما سبقها في العهد التُّركيّ فكان قبليّةً في مجتمعٍ هرميٍّ عنصريٍّ وطائفيّ، أي تراتبيّة المِلل (الشّعوب) في الدولة العثمانيّة. ونعثر في الجرائد والمجلّات التي كانت تُطبع في القرن التّاسع عشر والعشرين (وحتّى في زمن الانتداب) على ألفاظٍ ومصطلحاتٍ تشير إلى الحصرانيّة الدّينيّة الثّقافيّة "exclusivism" للهويّات في الشّرق الأدنى، كالهويّة السّريانيّة المارونيّة، والأرمنيّة، والرّوميّة، والعربيّة السّنيّة، والعربيّة الشّيعيّة، واليهوديّة... وهذا أحدُ البراهين الحسّيّة على رسوخ الهويّات الإثنودينيّة. وعلى الرّغم من استحداث اتّفاقيّة سايكس-بيكو "دولًا" ذات دساتيرَ مختلفةٍ، لم يعدّها قاطنوها سوى تبديلٍ للتّقسيمات الإداريّة العثمانيّة أقلّه فكريًّا.

وبديهيًّا انتقل هذا التّصوّر المتزعزع للهويّة الجديدة إلى العقد الاجتماعيّ في اتّفاق الخوري-الصلح ونصّه المبهم (بخاصّةٍ فقرة النّفي المزدوج الشّهير). وإن كانت الهويّة اللّبنانيّة غير مكتملةً فكيف يمكن توليد معالمَ مواطَنةٍ؟ فالعلمنة التي تشكّل خلافًا فلسفيًّا في مجتمعات الحضارة الإسلاميّة لا تصلح وحدها لبناء هويّةٍ، لأنّ العلمنة، كالوعي، هي علمنة دينٍ محدّدٍ، حيث يُفصل المقدّس عن المدنّس، أي الشّعائر والطّقوس والمعتقدات الميتافيزيقيّة المنظّمة عن الثّقافة والقيم والسّلوكيّات. وهنا لبّ المشكلة. إذ يصعب بناء مواطنة لأنّ الاختلاف الثّقافيّ حادٌّ، وحتّى المشكلات الفلسفيّة تقاربها كلّ جماعةٍ انطلاقًا من الموروث الدّينيّ الثّقافيّ الخاصّ بها. خذ مثلًا مسألة التّسامح، فالسّؤال الفلسفيّ الذي يشغل مفكّري العالم الإسلاميّ والفلاسفة المسلمين هو: كيف يمكن توليد مفهوم حديث/معاصر للتّسامح الإسلاميّ؟ أو هل يمكن تطوير التّصوّر الإسلاميّ القروسطيّ للتّسامح؟ بينما يحاول فلاسفة الحضارة المسيحيّة (الغربيّة والأورثوذكسيّة) الإجابة على سؤال: أين تكمن حدود التّسامح؟ أو هل يجوز وضع قيودٍ على التّسامح؟

لماذا يُعدّ موت المواطن اللّبنانيّ "غريبًا"؟

إذن لا يسعنا الكلام عن موت "المواطن اللّبنانيّ" من دون ذكر العنصر الغريب في هذا الأمر. واختصارًا تتمثّل غرابة هذا المفهوم في عدم وجوده أساسًا. ولكنْ كيف يجوز وصف سمات شيءٍ غير موجودٍ؟ ألا يعدّ هذا تناقضًا أنطولوجيًّا؟ طبعًا لا، لأنّ المواطَنة اللّبنانيّة موجودةٌ في المواثيق القانونيّة، تمامًا كالهويّة اللّبنانيّة المنفصلة عن هويّات الجماعات التي نعثر عليها في الأشعار، والكتب الرّوائية، والمسرحيّات. أعني بذلك الوجود النّظريّ الذي تولّده أحيانًا الجزء الإبداعيّ في المخيّلة البشريّة، ولكنّه يسقط فور اصطدامه بالواقع. فالمواطَنة الحقيقيّة تتطلّب شروطًا لم تتوفّر أساسًا في العقد الاجتماعيّ، وهذا سبب استحالتها. ومهما حاول بعض المحلّلين الدّغمائيّين تجاهل الوقائع الموضوعيّة فهي حتمًا ستفرض نفسها في طبيعة الحال، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب دمارٍ وخرابٍ كبيرين.