لو كان فادي بجّاني قوميّا سوريّا، هل كان حمل السلاح بمواجهة مسلّحي الحزب في الكحّالة؟ تقديري انّه لو كان قوميّا، لامتشق السلاح مع عناصر الشاحنة، ضدّ بيئته، لا ضدّهم هم.
باستثناء انّ فادي بجّاني لم يكن قوميّا طبعا. كان أساسا مقاتلا قوّاتيّا مع ايلي حبيقة، قبل أن يتحوّل الى العونيّة لاحقا. بهذا المعنى، الصدام في الكحّالة كان مواجهة بين عونيّين والحزب "من تحت"، أي على مستوى القواعد، ولو انّ العونيّة "من فوق"، على مستوى القيادة، سارعت الى استثمار المأساة وتوظيفها سياسيّا. استطرادا، صدام الكحّالة ينبغي أن يعيد التذكير بحقيقة مفادها انّ العونيّة من تحت، كقاعدة، غيرها من فوق، كقيادة. بالحقيقة، كلّ العونيّين العاديّين الذين أعرفهم يحبّون كميل شمعون، ويكرهون حافظ الأسد، كما يكرهون سلاح الحزب الذي تتحالف معه قيادتهم. الفارق مع مسيحيّي 14 آذار انّهم يضيفون سمير جعجع الى قائمة أعدائهم، على رأسها.
لو قيّض لي يوما أن أكتب بحثا عن الظاهرة العونيّة، لأعدت جذورها الى أيّار من العام 1976، بجبيل. آنذاك، قتل كتائبيّون 11 شخصا من مناصري الزعيم الراحل ريمون ادّه، الذي تعرّض بدوره لمحاولات اغتيال أبعدته عن لبنان. آل ادّه لم يكونوا تفصيلا عند الموارنة، بدليل النتائج التي حصدها ريمون ادّه بانتخابات العام 1972. القضاء على زعامة آل ادّه بالدم أفقد خطّ الكتائب-القوّات حاضنة شعبيّة أساسيّة في الوسط المسيحي. مجزرة اهدن عام 1978 أفقدته حاضنة ثانية، وبشكل أعتى. أمّا مجزرة الصفرا، فأبعدت عن خطّ القوّات-الكتائب الحاضنة الشعبيّة الأكبر آنذاك، وان كانت أضعف منه تنظيميّا. كلّ ما سبق، بالحقيقة، كان ثمن الصراع على الزعامة المارونيّة، وهو الصراع الذي يتيح للمنتصر فيه القبض على درّة التاج: رئاسة الجمهوريّة. ربّما لو عاش بشير الجميّل، لكان داوى الجراح تدريجيّا. ولكنّ رحيله المدوّي حرّك الآلة الجهنميّة مجدّدا، وهذه المرّة داخل خطّ القوّات – الكتائب نفسه. هكذا، تواجه رجال بشير، مع أخيه أمين، عام 1985، فأضيف رافد جديد الى الروافد المسيحيّة الرافضة للقوّات، عنيت كتائبيّي أمين الجميّل، وقوّاتيّي فؤاد أبو ناضر. ثمّ اصطدم سمير جعجع بايلي حبيقة بعنف عام 1986، أي أنّ بعض القوّات حارب بعضها الآخر، فخسرت القوّات الجناح "الحبيقي" فيها، ومنه مقاتلون أشدّاء لم يتهاونوا مرّة منذ العام 1975. ومع حلول العام 1988، موعد وصول الجنرال ميشال عون الى السلطة، كان المجتمع المسيحي يعيش مفارقة مفادها أنّ القوّات تحوّلت، عسكريّا، وماليّا، واعلاميّا، وتنظيميّا، الى مؤسّسة وجغرافيا قادرة أخيرا على تحويل رغبة الانعتاق من خطيئة لبنان الكبير من حلم الى حقيقة؛ ولكنّها، وهي على شفير تحقيق الحلم، كانت خسرت ربّما 80 بالمئة من المجتمع المسيحي الذي قاتلت باسمه. هذه الشرائح المسيحيّة كانت، بالحقيقة، بانتظار قوّاتي لا يلبس بذّة القوّات، ولا يدعى سمير جعجع. بمعنى آخر، كانت هذه الشرائح قوّاتيّة ايديولوجيّا، ولكنّ الدم المسيحي الغزير الذي أريق على مذبح صراعات الموارنة على السلطة أبعدها عن القوّات. ثمّ أطلّ الجنرال على مجتمع مستعدّ تماما لاستقباله، ونشأت الحالة العونيّة.
العونيّون، بهذا المعنى، بدعة قوّاتيّة. هم رافد من روافد ما اصطلح على تسميته ب"اليمين المسيحي". ليس صدفة أن يكون الدكتور ناجي حايك شديد الشعبيّة بينهم، وجذره السياسي، كما خطابه، شمعوني – قوّاتي. لماذا من المهمّ أن نتذكّر كلّ ذلك الآن؟ الجواب انّ لحظة الكحّالة كثّفت التناقض بين العونيّة من فوق، والعونيّة من تحت، وظهّرته. لم تكن دماء فادي بجّاني نشفت بعد عندما غرّد جبران باسيل على تويتر انّ حادثة الكحّالة كشفت "أهميّة أن تكون المقاومة محتضنة من الشعب اللبناني، والّا تفقد مناعتها وقوّتها. يحمي لها ظهرها شعب لا شخص". وأمّا الشخص الذي لا يحمي المقاومة، فسليمان فرنجيّة؛ وأمّا الشعب الذي يحميها، فأنصار باسيل. وبينما قدّمت العونيّة من تحت دماء بمواجهة حزب السلاح في الكحّالة، قدّم باسيل الى نفس الحزب عرضا بايصاله هو، لا فرنجيّة، الى رئاسة الجهوريّة.
لا أمل، اطلاقا، في أن يقتنع باسيل بممارسة السياسة بطريقة مختلفة عمّا مارسها الى الساعة، أي كسعي للسلطة من أجل السلطة، والمال والنفوذ كغاية بذاتهما. ولكنّ الأمل يبقى معقودا على أن يفهم المزيد من العونيّين أنّهم، "من تحت"، غير قيادتهم من فوق، وهي التي تلاقت مع من قتلهم في الكحّالة، قبل أن يهدر دمهم ويخوّنهم وبيئتهم على مواقع التواصل. الأمل معقود أيضا مع ظهور أجيال جديدة ولدت بعد 1990 على أن تصبح ذاكرة الحرب أضعف من تشكيل وعيها السياسي، فلا يصبح نصر اللّه حليفا لمجرّد أنّ جعجع عدوّ. نسرّع المسارين، أو نعرقلهما، بحسب تعاطينا مع العونيّين العاديّين. أملي أن نتذكّر، من الآن فصاعدا، أن واحدا منهم سقط شهيد الدفاع عن أهلنا بالكحّالة. أملي، بمعنى آخر، ألّا ننسى أنّ العونيّين، وان لم يكونوا بالضرورة أذكانا، هم منّا بنهاية المطاف.