هشام بو ناصيف - نظام الهراء

بالشكل، لا شيء يجمع بين استدعاء الناشطة مريم مجدولين اللحّام للتحقيق على خلفيّة بوست وضعته على السوشال ميديا، وتوقيف الكوميدي نور الحجّار بسبب نكتة، وحملة وزير الثقافة على فيلم باربي، وموجة الهوموفوبيا التي تجتاح لبنان، والكلام النابي المكرّر لوئام وهّاب باطلالاته التلفزيونيّة. بالمضمون، هناك خيط رفيع يربط كلّ هذه الأمور المتفرّقة بمسار واحد عنيت تفريغ الشأن العام من المعنى، وحشوه بضجيج يومي يسطّح العقل بعزّ الحاجة للتفكير الهادئ بأحوال لبنان.

تعاني بلادنا من مشاكل أساسيّة مباشرة هي التالية: 1) قيام دولة طائفيّة على أنقاض الدولة اللبنانيّة بحماية السلاح غير الشرعي، ودعم النظام الايراني. 2) الانهيار الاقتصادي الذي قضى على طبقة وسطى بدأ تشكّلها الأوّل بعهد المتصرّفيّة. 3) تعطيل العدالة، ما يحول دون محاسبة المسؤولين عن مأساة المرفأ، ونهب ودائع اللبنانيّين. 4) غياب الأمن في حياتنا اليوميّة على خلفيّة الاغتيالات السياسيّة التي أودت مؤخّرا بحياة الشهيد الياس الحصروني، وشاحنات الذخيرة المتنقّلة في المناطق السكنيّة المكتظّة، والرصاص الطائش، وانتشار فوضوي للنازحين السوريّين بكلّ مكان.

يلوح فوق هذه المشاكل المباشرة، وكخلفيّة بنيويّة لها، طيف المشكلتين الأساسيّتين بتاريخ البلاد منذ كانت، عنيت ربط مصيرها بمصير المحاور الاقليميّة المحيطة بها بسبب رفض الهويّات العابرة للحدود تحييدها عنها؛ واستطرادا، خطيئة ادارة مجتمع طوائفي مركزيّا، وهو ما لم يكن يوما سوى وصفة للفشل الأكيد. فرزت المشكلتان البنيويّتان المشاكل السياسيّة والاقتصاديّة الأخرى، وهذه بدورها تصعّب حلّ أزمة النظام. هكذا تبقى حياتنا الوطنيّة أسيرة جدليّة قاتلة، بينما تفرّغ الهجرة مجتمعنا من طاقاته، وتندرج أمورنا وفق سيرورة تبدو تطبيقا حرفيّا لعنوان كونديرا الشهير: "الحياة في مكان آخر."

نظريّا (جدّا)، يفترض هول المأساة أفكارا جديدة لمواجهة واقع غير مسبوق في لبنان. فعليّا، ان كان من نقطة التقاء واحدة للقوى السياسيّة المختلفة التي تجترّ وجودا فقد معناه¬¬––أو لم يكن له معنى مرّة––فهو غياب الأفكار. أن يقدّم لنا حسن نصر اللّه الزراعة على الشرفات كحلّ لمصيبتنا الاقتصاديّة ليس فكرة. ولا محاولة نبيه برّي اصطناع الفكاهة بجلسات مجلس النوّاب فكرة، دع عنك أن تكون نكاته خفيفة الظلّ أصلا. الخطاب السائد عبارة عن كيتش يأتي به الزعماء من فوق، ثمّ يسوّقه في الاعلام وعلى مواقع التواصل جيش من "المحلّلين" و"المستشارين" يترزّقون عبر مساعدة أولياء نعمتهم على تسطيح وعي اللبنانيّين بعد أكثر.

ولا يعني ما سبق فراغ البلاد تماما من المعنى. يقدّم حازم صاغية وأنطوان الدويهي دوريّا لمحات فكريّة يمكن تحويلها لنوع من خارطة طريق أو مغامرة انقاذ، لو وجد في لبنان بعد من يريد أن يغامر ويأمل. يفكّك لنا منير يونس وباسمة عطوي كلّ أسبوع طلاسم المسألة الاقتصاديّة، وآخر تنصيبات المنظومة. كما يضع علي حمادة، وبشارة شربل، وأسعد بشارة، وسواهم النقاط على الحروف بالمواجهة المستمرّة مع السلاح الطائفي.

المشكلة أنّ كلّ هؤلاء بمكان، والسلطة الفعليّة بمكان آخر لا يأبه بهم، أو بأيّ كان. المشكلة أيضا أنّ الشاشات ومواقع التواصل مشرّعة تماما لطوفان من الهراء يريد أن يجعل من المثليّين آفة لبنان الكبرى، ومن "الدفاع عن القيم العائليّة" عنوان المرحلة. صارت العائلات اللبنانيّة عموما مفكّكة بين أبناء وبنات بالمهاجر، وأمّهات وآباء يعدّون الأيّام الثقال بلبنان. كما بات غياب القدرة عل الزواج والانجاب أمرا واقعا ينبغي التأقلم معه، والعنوسة حالة اجتماعيّة ينبغي التسليم بها. كلّ هذا، وهو نتيجة مباشرة لاداء المنظومة منذ عقود، أصاب العائلة اللبنانيّة بمقتل––ومع ذلك، هناك من لا يرى سوى المثليّين كخطر داهم ينبغي الاستنفار ضدّه من أجل "حماية العائلة".

هو، كما ذكرت بعنوان المقال، نظام الهراء. طبيعي أن يكون هكذا منطقه. مقاومة تبعاته السياسيّة، وصولا لكسرها، تفترض اشتباكا يوميّا مع أفكاره لفضحها، وأبطالها.