جوزف بوشرعه
إنّ دقّة المرحلة الرّاهنة، وما يصحبها من اعتداءاتٍ طائفيّةٍ على الإثنيّات المسيحيّة في لبنان، تتطلّب من الأخيرة تفعيل الوعي القوميّ الذي حاولت الحركات القوميّة العربيّة العنصريّة والطائفيّة إماتته، أو الذي طرحت المقاربات الشّعرية التّسوويّة تكييفه ليصبح شيئًا مصطنعًا بعيدًا عن هويّته التي لطالما تحصّن بها. إنّ مأساة الإثنيّات المسيحيّة في الشّرق الأوسط عمومًا، ولبنان خصوصًا، هو المقاربة الانصهاريّة الفاشيّة التي ترى في اختلافهم اللّغويّ، أو الثّقافيّ، أو الدّينيّ، عنصرَ ضعفٍ، بل عائقًا أمام تحقيق عظمة الدّولة أو الأمّة، سواءٌ أَقَصدنا الدّولة العابرة للحدود (أي مفهوم الأمّة الإسلاميّة/الأمّة العربيّة) أم الدّولة ذات الغالبيّة الإسلاميّة. طبعًا يضع هذا الموقف الإثنيّات المسيحيّة أمام الخيارات التّسوويّة التي تمثّلت بالمساومة على ثقافتها وهويّتها، إمّا عبر تبنّي هويّة مغايرة (كأسطورة الغساسنة والهويّة العربيّة للإثنيّات المسيحيّة)، إمّا عبر توليد هويّة مصطنعة (كالفينقة أو القوميّة السّوريّة). والحقّ إنّ المساومة التي ادّعى أصحابها أنّها ستحمي الإثنيّات المسيحيّة من خطر الاعتداءات الطّائفيّة والعنصريّة لم تكن سوى سرابِ متوهّمين قامروا بشعوبهم بناءً على تصوّراتهم الطّوباويّة الأفلاطونيّة. فتضاعفت هذه الاعتداءات، وتزايد خطاب الكراهيّة، وظهر في المجتمعات المسيحيّة ما يمكن تسميته اغترابًا ثقافيًّا «Cultural alienation» ساهم في انسلاخهم عن أرض آبائهم وأجدادهم. لذلك لا بدّ من مراجعةٍ نقديّةٍ للسّلوكيّات النّخبويّة عند المثقّفين المسيحيّين والبحث في بدائلَ واقعيّةٍ انطلاقًا من التّجريب.
الاغتراب الثّقافيّ وفقدان الهويّة
سلبت السّلطات العربيّة القوميّة المتطرّفة من الأقلّيّات الدّينيّة حقوقهم الثّقافيّة. كما أدّت السّياسات العنصريّة والطّائفية التي مارستها تلك الأنظمة (كالبعث العراقيّ، والبعث السّوريّ، والنّاصريّة المصريّة) إلى تقويض مقام هويّات الأقلّيّات في نظر أصحابها، فباتوا ينظرون إليها نظرةً دونيّةً بعد أن كانت عندهم موضع توقيرٍ منذ القرون الوسطى حتّى القرن التّاسع عشر، بل حتّى بداية القرن العشرين، والأمر جلّيٌّ في المطبوعات والمنشورات والمقالات التي صدرت آنذاك. والحقّ أنّ هذه الظّاهرة ليست غريبةً في العالم، فالأيرلنديّين والاسكوتلنديّين والويلزيّين عانوا من السّياسات الإنكليزيّة التي هدفت إلى محو ثقافتهم واستبدالها بالنّمط العيش "المتحضّر"، فانعكست بخجل مثقّفيهم بلغتهم الغيليّة التي ربطوها بتخلّف "القرون المظلمة". والأمر نفسه نجده في الدّول الإفريقيّة التي استعمرتها فرنسا وقضت على غنى لغاتها، حتّى بات الدّيكتاتوريّون الأفارقة أنفسهم معجبين بالثّقافة الفرنسيّة، ساخرين من إرثهم الحضاريّ، كالدّيكتاتوريّ جان بيديل بوكاسا " Jean-Bédel Bokassa" الذي عيّن نفسه "أمبراطور أفريقيا الوسطى" في مراسيم مضحكةٍ قلّدت تتويج نابوليون (حتّى أنّه جلس على عرشٍ على هيئة نسرٍ). وتُدعى هذه الظّاهرة "الاغتراب الثّقافيّ" حيث يتخلّى الفرد (أو الجماعة) عن إرثه ولغته وحضارته، فيما يتبنّى ثقافة الآخر المستعمر أو الفاتح، فيغترب عن ثقافته تدريجيًّا إلى أنْ يفقد هويّته تمامًا. والموارنة والرّوم في لبنان، تماما كحال الأقباط في مصر، خير مثالٍ على ذلك.
لم يكن الاغتراب الثّقافيّ عند الإثنيّات المسيحيّة في لبنان ظاهرةً اجتماعيّةً قبل منتصف القرن العشرين. فقد كانت المدارس الرّوميّة تعلّم اليونانيّة، وكانت المدارس المارونيّة تدرّس السّريانيّة. كما برز شعراء موارنة ألّفوا دواوين كاملةً بالسّريانيّة (مثل منصور يوحنّا الحكيّم، وبولس الخوري الكفرنيسي، ويوسف حبيقه...)، واهتمّ الرّوم بتاريخهم وأبعدوا عنه شبهات التّزوير كالمؤرّخيْنِ قسطنطين الباشا، وأسد رستم... لكنّ هيمنة الثّقافة الفرنكوفونيّة التي رافقها تيّار الفينقة "phoenicianism" بقيادة شارل قرم وسعيد عقل من جهةٍ، وصعود التّيّار القوميّ العربيّ الاشتراكيّ المدعوم ماليًّا (ولاحقًا عسكريًّا) من الخارج من جهةٍ أخرى، فضلًا عن تدفّق المقالات البروبغنديّة التي حاولت استمالة أولاد البرجوازيّين المسيحيّين (بخاصّةٍ البروتستانت) الذين رأوا في الثّقافة السّريانيّة والرّوميّة بقايا تقاليدَ قرونٍ غابرةٍ لا بدّ من تجاوزها، عوامل ساهمت في توسيع ظاهرة الاغتراب الثّقافيّ عند الإثنيّات المسيحيّة وما لحقها من فقدانٍ للهويّة.
أهمّيّة الإحياء اللّغويّ
باستطاعتنا ملاحظة عواقب هذا الاغتراب الثّقافيّ عند المجتمعات المسيحيّة في سلوكيّات الأفراد، على المستوى المعرفيّ، والاجتماعيّ، والسّياسيّ. وما يعنينا في هذا الإطار هو مستوى الفكر السّياسيّ، والمقاربات الطّوباويّة الفاشلة، والحلول المستوردة، وكأنّ المشكلات اللّبنانيّة تحلّها حلولٌ فرنسيّةٌ (فكرة العلمانيّة)، أو ألمانيّةٌ (فكرة القوميّة من القرن التّاسع عشر)... والحقّ أنّ أشباه هذه المقاربات أدّت إلى تشتّتٍ سياسيٍّ في المجتمعات التي رفعت بفخرٍ واعتزازٍ لواءها حتّى باتت اليوم على حافّة الاختفاء بعد أنْ صمدت قرونًا. فأين أصبحت حلول المطارنة الحمر، والمفكّرين "المسيحيّين" الذين تحسّسوا من هويّاتهم، وفضّلوا الإنسان الفويرباخيّ الفلسفيّ المجرّد، وتفاخروا بأنّهم مواطنون من العالم لا يحدّهم الدّين أو الهويّة الإثنيّة، وتحوّل إعجابهم بالآخر إلى كراهيّة الذّات التي صاحبت لوم المختلفين دينيًّا ولغويًّا وإثنيًّا على ضعف الدّولة العربيّة وخساراتها المذلّة. هذا التّشتّت هو سبب تمسّك المسيحيّين (خصوصًا الأجيال التي نشأت في النصف الثّاني من القرن الماضي) بشعاراتٍ وهميّةٍ وهويّاتٍ مصطنعةٍ بدلًا من الإنكباب على إحياء تراثهم وإرثهم كما فعلوا في القرون الماضية الأشدّ ظلمًا وظلامًا. ولا يمكن الحديث عن تطوير الوضع الرّاهن، والخروج من هذا الاغتراب إلّا من خلال الإحياء اللّغويّ، أعني إعادة تدريس السّريانيّة واليونانيّة (المعاصرة) والاهتمام بموروثهما الأدبيّ والفكريّ، أقلّه في المؤسّسات الخاصّة التّابعة للإثنيّات المسيحيّة الدّينيّة أو العلمانيّة.
إنّ اللّسان (أو اللّغة) عنصرٌ أساسيٌّ في الوعي الذّاتيّ عند الأفراد والجماعات، حيث يعجز الإنسان عن بلوغ طور التّعبير الأصيل عن ذاته إنْ لم يكن متمكّنًا من اللّغة التي تعبّر عن تصوّراته ومنظوره للعالم، حتّى لو اعتمد بدائلَ أخرى. فالبنية اللّسانيّة العمقيّة تمنعه من اكتشاف ذاته الأصيلة أو التّعبير عنها في لغةٍ بديلةٍ. لكنْ ليست هذه الإشكاليّة الفلسفيّة موضوعنا، بل الموضوع مرتكزٌ على النّتائج الحسّيّة لعمليّة "الإحياء اللّسانيّ" "language revitalization"، أي إحياء لغةٍ ميتةٍ عبر تفعيل تدريسها في المدارس والمؤسّسات، وتنشيطها كي تواكب متطلّبات العصر الحديثة (كزيادة معجمها بالألفاظ المولّدة أو المستعارة)، وصولًا إلى اعتمادها رسميًّا في المؤسّسات الرّسميّة والخاصّة. وقد ذكر اللّسانيّ ديفيد كريستل "David Crystal" شروط نجاح الإحياء اللّغويّ، ولعلّ أبرزها شرط "المقام اللّسانيّ" "prestige"، أي إعلاء مكانة اللّغة عند المجتمعات التي فقدتها (أو التي تعدّها إرثًا ثقافيًّا لها). وفي السّياق اللّبنانيّ تبرز أمامنا مسألة اللّغة السّريانيّة واللّغة اليونانيّة، وهما اللّغتان اللّتان ألّفت فيهما المجتمعات الرّوميّة والسّريانيّة في لبنان والمشرق روائع الأدب، والفلسفة، واللّاهوت... فنظم رومانوس ترانيمه باليونانيّة، وكتب الرّوميّ يوحنّا الدّمشقيّ خلاصته اللّاهوتيّة باللّسان اليونانيّ، كما أنشد أفرام ويعقوب السّروجيّ أشعارهما بالسّريانيّة، ووضع الموارنة طقوسهم اللّاهوتيّة بها، فضلًا عن المؤلّفات المنسوبة إلى مؤسّس كنيستهم يوحنّا مارون، ومنظومات شعرائهم المعروفين منذ القرن السّادس عشر حتّى القرن العشرين الذين كتبوا بلسانٍ سريانيّ فصيحٍ (وعددهم يتجاوز الخمسين شاعرًا مارونيًّا). ولكنْ كيف السّبيل إلى اتّخاذ خطواتٍ عمليّةٍ في هذا الاتّجاه النّهضويّ القوميّ عند الرّوم، والسّريان الموارنة، والأرمن، والأشوريّين، والكلدان، والسّريان الآراميّين في لبنان؟ أي ما دور المؤسّسات الدّينيّة المسيحيّة؟
الكنائس أمناء التّراث والهويّة
غالبًا ما تُقاربُ الكنائس في الشّرق انطلاقًا من منظورٍ مسيحيٍّ غربيّ، أي الكنيسة بوصفها مؤسّسةً دينيّةً أمميّةً، لا تحدّها الهويّات الإثنيّة، بل تعبّر عن وعي إنسانيٍّ عامٍّ. بينما الأمر مختلفٌ في الشّرق. إذ لدى كلّ إثنيّةٍ (أو شعبٍ) تعبيره الخاصّ عن معتقده المسيحيّ، وتاليًا كنيسته الخاصّة، وهذا ما يرفضه المفكّرون المسيحيّون العلمانيّون، حيث يتعاملون مع الكنيسة (أو الكنائس) وكأنّهم في فرنسا زمن الحكم الملكيّ، أو في بريطانيا زمن الإصلاح البروتستانتيّ، فيما يتجاهلون الوقائع الاجتماعيّة، والثّقافيّة، والتّاريخيّة.
لقد أدّت كنائس الرّوم، والأرمن، والسّريان، والسّريان الموارنة، والكلدان، والآشوريّين، دورًا محوريًّا في المحافظة على التّراث اللّغويّ، والدّينيّ، والعلميّ لجماعاتها، على الرّغم من الاختلاف العقائديّ في الشّعب الواحد، كحال الأرمن (الأورثوذكس، والكاثوليك، والبروتستانت)، أو الرّوم (الأورثوذكس والكاثوليك). وهذا ما سمح للإثنيّات المسيحيّة في المشرق بالمحافظة على هويّاتها، بل إغنائها أيضًا بالمعارف الجديدة من خلال احتكاكهم بحضارة العرب (كالنّهضة السّريانيّة في القرون الوسطى حيث عمد المؤلّفون السّريان إلى ترجمة الأعمال العربيّة المهمّة، مثل ترجمة ابن العبري كتاب الإشارات والتّنبيهات لابن سينا إلى السّريانيّة)، أو بحضارة الغرب اللّاتينيّ (مثل ترجمة الموارنة بعض الصّلوات والتّرانيم اللّاتينيّة الكاثوليكيّة إلى السّريانيّة). ولكنّ المقاربات التي دُعيت زورًا "إصلاحيّةً"، إلى جانب عواملَ أخرى، حرفت المسار القوميّ النّهضويّ لهذه الكنائس، خصوصًا كنيسة الموارنة، وكنيستي الرّوم، حتّى بدأت منذ منتصف القرن التّاسع عشر حملات تعريبٍ واسعةٍ بلغت أوجها في منتصف القرن العشرين مع تشدّد الأنظمة القوميّة العربيّة.
هكذا تشتّت وعي الرّوم والموارنة، حتّى تغلغلت في أوساط "مفكّريهم" الإكليريكيّين والعلمانيّين هويّاتٌ وقوميّاتٌ مصطنعةٌ، بل خياليّةٌ، كالهويّة الفينيقيّة، أو القوميّة السّوريّة، أو العربيّة (وتحديدًا الهويّة العربيّة المنفصلة عن الإسلام، والتي يمكن وصفها بالعروبة الكرشونيّة)، وبدأت تظهر الأعمال ذات التّوجّه الأيديولوجيّ، ككتابات لويس شيخو عن شعراء النّصرانيّة التي جمع فيها شعراء المذهب النّصرانيّ في شبه الجزيرة العربيّة مع الشّعراء المستعربين في القرون الوسطى، وشعراء الحداثة، أو روايات كمال صليبي التّاريخيّة التي تجاهلت الوقائع الأثريّة، وآلاف المخطوطات المحفوظة في الأديرة والجامعات، لتعتمد حصرًا على تأويلٍ لسانيٍّ انتقائيٍّ ذات توجّه مسبقٍ ينسف أصول الدّراسات العلميّة. وقد سُحِرت أجيالٌ بهذه التّفاهات الميتافيزيقيّة، وفقدت الإثنيّات المسيحيّة أقوى سلاحها، أي وعي أبنائها بهويّاتهم.
بيدَ أنّ الوضع الرّاهن بشريُّ المنشأ، أي يمكن عكسه من خلال تعاضد المؤسّسات التّربويّة المسيحيّة وإجماعها على إعادة بثّ روح الثّقافة السّريانيّة أو اليونانيّة عند الموارنة والرّوم. لذلك إنّ إصلاح المنهج التّعليميّ في المدارس المسيحيّة ضرورةٌ تربويّةٌ واستراتيجيّةٌ، فقد باتت المدارس الكاثوليكيّة (والأرثوذكسيّة) تخرّج أجيال مهاجرين، بعدما خرّجت أجيال مهجّرين. تجهد المناهج الحاليّة في إبعاد الدّارسين عن ثقافاتهم، وفي الوقت نفسه تدعوهم للتّمسّك بهويّةٍ لم يسمعوا فيها، فيعيشون في تناقضٍ دائمٍ لا يحسمه شيءٌ سوى الهجرة أو الأدلجة غير الأخلاقيّة. من راهن على طروحات الانصهار الفاشيّة يحصد عواقبها الوخيمة، إذ لم يعد ينفع توسّل الحقوق السّياسيّة بعد بيع الحقوق الثّقافيّة، بل أضفى خداعًا للذّات.