نبيل اللقيس
كأيّ لبناني مغترب منذ سنوات، ألتقي مثقّفين عربًا يقيمون في المهجر خلال ندوات أو مناسبات مختلفة، وأتابع إنتاجهم. يذهلني لدى معظمهم استسهال هجاء الغرب الليبرالي، وتجنّب التصدّي للمسألة الأساس التي تهمّ مجتمعاتنا، عنيت المسألة الدينيّة، وقضيّة الاصلاح الديني. هذا النوع من المثقّفين العرب حالة فريدة من نوعها. في الدول التي أتوا منها حروب، وفقر، وطائفيّة، وأصوليّة دينيّة، وتأخّر علمي وأكاديمي. ولكنّهم مشغولون عن هذه الأمور بتقريع الغرب، أو بتعليقها على شمّاعته.
لست ماركسيًّا، ولكنّني مقتنع أنّ ماركس أصاب كبد الحقيقة عندنا كتب أنّ "نقد الدين أساس كلّ نقد". ليس صدفة أنّ عصر التنوير الأوروبي بدأ بوضع الدين على مشرحة التفكير النقدي، ورفض تدخّله بالفضاء العام، فضلًا طبعًا عن نقد التحالف بين المؤسّسة الدينيّة والسلطات الزمنيّة. ليس صدفة أيضًا أنّ أرفع أنواع أدب التنوير حمل نقدًا لاذعًا لفساد الكنيسة، من "طرطوف" موليير، إلى كتابات فولتير، وديدرو، وصولًا إلى الشعار المعروف للثورة الفرنسيّة عن ضرورة "شنق آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين". ان لم تكن وظيفة المثقّف العربي اليوم أن يكون القابلة التي يخرج منها تمرّدًا ضروريًّا على الدين في منطقتنا، ما وظيفته تحديدًا؟
للتذكير: داعش لم تهبط علينا بالمظلّة بل خرجت من لدن مجتمعاتنا. الأمر عينه صحيح بالنسبة لسائر التجارب المتوحّشة الأخرى، دينيّة أم غير دينيّة. إن لم يواجه المثقّفون العرب بشجاعة وجذريّة البنية التحتيّة الثقافيّة التي سمحت بظهور هذه الأورام وتوسّعها في دولنا، من سيفعل؟ الأكيد أنّ دور المثقف العربي ليس بيت شعر موسمي عن فلسطين، ولا هجاء "الاستعمار"، ولا اثبات أنّ داعش لا تمثّل الإسلام، ولا لوم دول الغرب لأنّها تتصرّف وفق مصالحها، لا كما نريد لها نحن أن تتصرّف. دور المثقّف العربي بالدرجة الأولى نقد المنظومة القيميّة الدينيّة الّتي تحول بيننا وحداثة لن نطال منها شيئًا ما بقيت النصوص الدينيّة ومشتقّاتها مسيطرة على دساتيرنا، والقوانين الوضعيّة، وتفاصيل حياتنا. ودور المثقّف أيضًا فضح التحالف المتين بين الحكّام العرب ورجال الدين المسلّطّ كسيف فوق رقابنا، وهو الجذر الأساس لكلّ المصائب التي تتوالى علينا منذ عقود.
كيف نتصدّى لقضيّة الأقليّات الدينيّة والجنسيّة في منطقتنا، وحقّها الطبيعي بالمساواة السياسيّة والمعنويّة، إن لم نحرّر الفضاء العام من سلطة الدين؟ كيف ندفع حقوق المرأة قدمًا؟ كيف نحدّ من سطوة السلفيّين وسائر القوى الرجعيّة؟ وإن لم نفعل كلّ ذلك، كيف نتقدّم؟ التفكير بكلّ ذلك أمضى وأهمّ من أبيات الشعر عن فلسطين، أليس كذلك؟ باستثناء طبعًا أنّ الخلفيّة القوميّة، أو اليساريّة، أو الاسلاميّة لمثقّفينا تحضّرهم ذهنيًّا للتصدّي لكلّ شيء، وانتقاد كلّ شيء، ما عدا المسألة الأساس التي تهمّ، عنيت القضيّة الدينيّة عندنا. وليس القصد ممّا سبق المحاججة أنّنا سنحلّ كلّ مشاكلنا بمجرّد التصدّي لهذه القضيّة. ولكنّنا بالتأكيد لن نحلّ أيّ مشكلة إن لم نعالج هذه أوّلًا.