هشام بو ناصيف - الاعلام، الأخلاق، والحرب


نشرت صحيفتا "النيويورك تايمز" وال"وال ستريت جورنال" هذا الصباح تقارير مفصّلة عن مأساة مستشفى المعمداني بغزّة تدحض الرواية السائدة عنها بلبنان، والعالم العربي. روجّت "حماس" منذ يومين سرديّة مفادها أنّ أكثر من خمسمئة شخص قتلوا بهجوم شنّه الطيران الاسرائيلي على المستشفى. تبنّى السرديّة لا فقط "الشارع" العربي، بل مثقفّون وكتّاب يفترض انّهم غير ممانعين. ولكنّ المعلومات المتوافرة اليوم تقدّم رواية مختلفة عمّا حصل. تحديدا، تشير تقارير الصحف الأميركيّة الى انّ عدد القتلى بين مئة وثلاثمئة؛ وأنّ الصاروخ أصاب الموقف الملاصق للمستشفى، لا بناء المستشفى نفسه؛ وأنّ نوعية الأضرار التي خلّفها الصاروخ ترجّح كونه صاروخ أرض – أرض، أي من نوع الأسلحة التي تملكها "حماس" و"الجهاد"، لا صاروخ جوّ – أرض، من نوع الصواريخ الاسرائيليّة.

لست خبيرا عسكريّا، ولا أزعم معرفة بهذه المسائل. أعلم أيضا من المتابعة اليوميّة "للتايمز" و"الجورنال" أنّ الصحيفتين منحازتان لاسرائيل. هل يصل هذا الانحياز لدرجة تلفيق معلومات بمسألة بهذه الأهميّة؟ لا أعلم. ولكنّني أعلم، بالمقابل، أن صحيفة "الأخبار" ليست بدورها مدرسة بالموضوعيّة الصحفيّة، ولا الاعلام العربي عموما. وان كان الاعلام الأميركي مع اسرائيل، فالاعلام العربي ضدّها. تاليا، بالنسبة لمن يتحمّل المسؤولية عن مأساة المعمداني، أعلم أنّني لا أعلم. لن أنساق لموقف من القضيّة لمجرّد أنّه يرضي "الجماهير".

يفترض أنّ هذا هو الحدّ الأدنى من أخلاقيّات مهنة الصحافة، والتعليق السياسي، أليس كذلك؟ أقصد ألّا يكتب واحدنا وينشر طمعا بتصفيق الجماهير، (أو لارضاء أهل السلطة). يفترض، أيضا، أنّ هذا النوع من التحفّظ الفكري، والترفّع الأخلاقي، الضروري بأيّ مرحلة، ضروري خصوصا في الظروف المشابهة للأوضاع الحاليّة. يفترض أمور كثيرة، بالحقيقة، كلّها غائبة عن مشهد لعلّ وصمه ب"التجهيلي" أصحّ من وصفه ب"الاعلامي".

وعلى سيرة الأخلاقيّات. قوبلت مأساة المعمداني باستنكار عالمي واسع، وهذا بديهي. للفلسطينيّين حقوق كبشر، وللحرب قوانينها. طبيعي أن تثير المأساة تعاطفا واسعا، واستنكارا مستحقّا تماما. ولكن هل تسمح لنا "الجماهير" أن نسأل ما اذا كان ضحايا هجوم "حماس" بشرا بدورهم؟ هل يحقّ لنا عندما نقرأ أخبار حرق الرضّع وهم أحياء، واغتصاب النساء، وخطف الأطفال كرهائن، أن نشعر بنفس الاشمئزاز والتعاطف الانساني – نعم، التعاطف – الذي نشعر به عند رؤية صور القتلى الفلسطينيّين في ذلك المستشفى المنكوب، دون أن نصبح من "يهود الداخل"؟

عندما بدأت الأحداث الأخيرة، لم أتوقّع من "الأخبار" وشاكلاتها أن تكتب غير ما كتبت فعلا. ولكنّ استسلام اعلام الطرف الآخر بلبنان للسرديّة الممانعة تامّ. والحال أنّ هناك حفنة غير قليلة من رؤساء التحرير، والكتّاب، والمحلّلين "السياديّين" الذين جاؤوا الى ما اصطلح على تسميته بفريق "14 آذار" من خلفيّات قديمة في اليسار اللبناني، والحركة الوطنيّة. عندما يكتب هؤلاء عن انكشاريّة حافظ الأسد بلبنان زمن الحرب، يستعملون كلمة "الوجود السوري" بدل "الاحتلال". وبمجرّد أن تتحرّك الأمور في فلسطين حتّى يستفيق فيهم وعي المسيحي "الوطني"، الجبان، المنهار، المستسلم فورا ودائما للوعي الأكثري.

أن نتوقّع من هؤلاء اعلاما حرّا، أو رأيا شجاعا بعزّ الحاجة اليه، محال. لا مشكلة، في مكان ما، باعتبار أنّ الصحافة العالميّة متاحة بنقرة على اللابتوب، مع التكرار أنّ مقاربة كلّ ما يكتب ويقال فيها بتحفّظ ضروري، لأنّ الموضوعيّة التامّة غير موجودة على البسيطة. أمّا بالنسبة لمن لا يملك غير الصحف اللبنانيّة كمدخل الى الأحداث والعالم، فعدم القراءة لعلّه أحسن. هناك نوع من "المعرفة" يبدو "الجهل" معه أرقى وأفضل.