يكاد يكون لبنان أكثر دولة في المنطقة دفعت ثمن المسألة الفلسطينيّة من خلال الإنقسام العامودي الّذي أوجده هؤلاء ولاحقًا إنتقالهم إلى العمل العسكري الفدائي وصولًا إلى الحرب اللبنانيّة التي شكّلوا العنصر المتفجّر الأساسي فيها وما تبعها من تفكّك للدولة حتّى يومنا هذا.
في هذا الإطار، ومع تطوّر الأحداث في قطاع غزّة بُعيد عمليّة 7 تشرين إنقسم الرأي العام العالمي والعربي حيال سياقات الحدث، كما انقسمت الطوائف اللبنانيّة على الشكل الآتي:
- المسيحيّون : الغالبيّة الساحقة منهم تنتمي إلى الطبقة المتوسّطة والمتعلّمة، فهم يشكّلون رأيًا عامًّا متحرّكًا في كثير من الأحيان، لكنّ ذاكرة الحرب وما قبلها والتجاوزات والمجازر التي قام بها الفلسطينيّون بحقّ المناطق المسيحيّة وما أسفر عن ذلك من ويلات ما زالت تشّكل ركيزة الوعي العميق لدى المسيحيّين تجاه الفلسطيّين، ولكن هنا يبرز عاملان :
- الأوّل هو عامل السنّ : بحيث رأينا تعاطفًا كبيرًا من أفراد مسيحيّين ينتمون إلى الفئات العمريّة الأصغر خصوصًا بعد إنتشار مشاهد قتل الأطفال وقصف مستشفى المعمداني، وقد يعود هذا الأمر إلى تماس هؤلاء الدائم مع مواقع التواصل. وربّما السبب الثاني هو أنّ مفعول التروما الفلسطينيّة قد تقلّص مع مرور الأجيال.
- العامل الثاني هو عودة مشاعر الكراهية ضدّ إسرائيل من قبل نسبة من المسيحيين خصوصًا أنّ الأغلبيّة تعتقد أنّ الأخيرة تقف وراء تفجير مرفأ بيروت وتدمير جزء أساسي من الأحياء المسيحيّة.
هنا تجدر الإشارة، إلى الفرق بين التعاطف à court terme الذي لا يمكن إنكاره عند شريحة واسعة من المسيحيّين، ووعيهم الجماعي الذي هو وعي معادي للفلسطنيّين وقد ظهر هذا الأمر جليًّا في اليوم التالي بعد أعمال شغب دارت في عوكر، إحدى الضواحي المسيحيّة التي ذكّرت بالممارسات اليساريّة-الإسلامويّة حيث عاد هذا التعاطف وتقلّص إلى حدوده الدنيا.
- السنّة: الغالبيّة الساحقة من سكّان غزّة هم من المسلمين السنّة، وعلى الرغم من أنّ حماس باتت موسومة بالوسم الإيراني، لكن هذا لا ينفي الدعم القطري والتركي الكبيرين لحماس، فضلاً عن أنّ حماس فصيل سنّي متشدّد يقوم بشكل أساسي على خلفيّة دينيّة، من هنا نفهم التعاطّف الذي شهدته الساحة السنّيّة مع ما يحصل.
- الشيعة: قد قيل يومًا للإمام الخميني إنّه إذا أراد الدخول إلى العالم الإسلامي فإنّ فلسطين هي الباب الواسع لمن يروم هذه الغاية. ومن المعروف أيضًا أنّ مشاريع التوسّع الفارسيّة في المنطقة قديمة قدم بلاد فارس من زمن الحروب مع اليونان إلى زمن الشاه إلى تصدير الثورة، فتختلف العناوين لكنّ الثابت هو المزيد من الهيمنة الإيرانيّة في المشرق. ومن الثابت أيضًا أنّ إيران وأجنحتها تضع فلسطين في صلب الإيديولوجيا والدعاية التي تعتمدها. ومن الثابت أكثر،أنّ إيران تستعمل العنوان الفلسطيني لحيازة نفوذ أكثر في المشرق العربي ووضع يدها على نقاط أكثر لفرض نفسها كشريك أساسي في خريطة توزيع النفوذ ونسب الأرباح من الغاز إلى الصفقات وطرق التجارة العالميّة. من هنا بوسعنا أن نفهم مدى الغيرة الشيعيّة على فصيل سنّي وقطاع على حدود مصر.
- الدروز: لطالما اعتبر كمال جنبلاط الوجه البارز للمشروع الفلسطيني بين ساسة الصفّ الأول، فللدّروز حسابات أخرى للحفاظ على انساجمهم في هذا البحر المُسلم، كما للدّروز تواجد أيضًا في إسرائيل يصل الى 150 ألف شخص وهمّهم التاريخي هو الحفاظ على وجودهم من هنا بوسعنا أن نفهم موقفهم من هذا الحدث ومن أحداث كثيرة أخرى.
خاتمة: قد يتّفق اللبنانيّون على المازة وبعض تقاليد الضيافة واللباقات الاجتماعيّة، لكنّهم وفيما لا ريب فيه يختلفون عند كلّ مفترق، لعلّ هذه الفرادة أو النقمة أو النعمة، أسموها ما شأتم، تشي بأمرٍ ما يحتاج إلى صياغة تمنع تكرار مشهد عوكر وغاليري الحاج وتخوين من لا يعتقد أنّ على لبنان أن يدمَّر كرمى لعيون مغامرات حماس، فالعداء لإسرائيل أمر ولحس المبرد أمر آخر.