لطالما كان موقف الكنيسة ضدّ العنف وضدّ الحرب واضحًا ومفهومًا، إذ هي لا تستطيع أن تناقض وتعارض رسالة مسيحها، المؤتمنة عليها، والتي قامت على السلام والأُخوّة والبُنوّة للآب السماوي، "الله". الأمانة للرسالة تتطلّب الشهادة، كلمة بتنا نسمعها يوميًّا ونتغنّى بها.
انطلاقًا من هذه الشهادة، كان للكنيسة الدور البارز في نشوء لبنان الكبير الذي أريد له يومها أن يكون رسالة للحريّة والتعدديّة، ومثالًا يُحتذى به في هذا الشرق. ولكنّ الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، إذ أنّ من تراه أخاك لا يعتبرك أخًا له، وهذا حقّه. واالله الذي ترى فيه أبًا، يراه "أخوك" قاضيًا جبّارًا جعله مع قومه أعلى منك منزلةً و"خير أمّة أُخرجت للناس". ومن تريد العيش معه بندّيّة ومساواة في الحقوق والواجبات، لا يرضى إلّا أن تكون ذمّيًّا له، وهو مُفضِلٌ عليك بها، بأمر الله تعالى، هي قناعاته، وله الحقّ بأن يقتنع بما شاء، كما لغيره هذا الحق أيضًا. هو يرى نفسه جزءًا من عائلة كبيرة تُدعى الأُمّة، وأنت ترى نفسك أقليّة في بحر واسع من "الإخوة" الذين لا يعتبرونك كذلك. تقاتل عبثًا في سبيل هذا البقاء والوجود مع "أخيك" بكلّ ما أوتيت من قوّة محاولًا في سيرك الابتعاد عن العنف تماهيًا مع رسالتك، وهذا حقّك.
في ظلِّ هذا التناقض الوجوديّ، لا بدّ للكنيسة الجامعة أن تقرّر واحدًا من اثنين، إمّا أن تحدّ رسالتها بالتبشير والشهادة لرسالة المسيح وتتنازل عن مسألة صراع البقاء في هذا الشرق ولبنان "الرسالة" وغيره من هذه السرديّات الشعريّة "وتتركها ربّانيّة". أو أن تنظر إلى الواقع كما هو وتتدبّر أمرها كجماعة ثقافيّة من جماعات أُخرى في هذا الشرق لها حقّ العيش والوجود. إذ أنّ الكنيسة باتت تعلم أكثر من غيرها أنّ المسيحيّين " الإسميّين"، أي المسيحيّين بالاسم فقط لا بالممارسة، باتوا عددًا لا يستهان به وهم يتبنّون مسيحيّتهم كثقافة وانتماء اجتماعي لا غير، لا يعنيهم الإيمان والالتزام الكنسيّ، ونراهم يغارون على رموزهم الدينيّة، كالصليب مثلًا، غيرةً حتى الموت، أمّا سلوكم ولسان حالهم فبعيد كلّ البعد عن "الرسالة". كيف ستتعامل الكنيسة معهم؟ هل تفصلهم عن الإيمان؟ هل تعتبرهم هذا "الخروف الضال" وتسعى بكلّ جهدها للعمل على إعادتهم إلى حظيرة الخراف؟ أم ستقبل بهم كما هم وتذهب لتحمل همومهم وتحاول أن تكون سندهم الفعليّ وعضَدَدهم ومِثالهم، قبل أن تكون المِثال لغيرهم؟ على الكنيسة في لبنان أن تقرّر، وأن وتُعطي إجابات واضحة وعمليّة عن إيمانها وتنتقل من الوعظ إلى الفعل والشهادة.
اليوم طبول الحرب تَقرع على الأبواب بكلّ تحدّياتها الوجوديّة، المجتمع المسيحي منقسم القيادات، فاقدٌ للمرجعيّة السياسيّة والقياديّة، مُعدَم الأفق والرؤية، ومن له سلطان الحلّ والربط يُطِلّ علينا ليكتفي بالقول: "لا للحرب". لا، لا يكفي أن نقول "لا للحرب".