ردًّا على الوزير غسّان سلامة

هشام بو ناصيف

للوزير السابق غسّان سلامة وجهة نظر بالمسائل المطروحة بلبنان جديرة بالتفكير. نتّفق معه طبعًا على أنّ الوضع الاقتصادي - الاجتماعي لا يحتمل، وأنّ مساعدة اللبنانيّين الأكثر فقرًا على تخطّي المرحلة حيوي لهم وللبلاد. ولكنّ مقاربة الوزير سلامة لأزمة البلاد التي عرضها البارحة عبر "صار الوقت" لم تقنعنا للأسباب التالية:

أوّلًا، يقول سلامة إنّه ليس ضدّ الفدراليّة بالمطلق، ولكنّ توقيت طرحها "غير مناسب" نظرًا لحدّة الأزمة السياسيّة والماليّة في البلاد. بالحقيقة، كلّ التغييرات الكبرى في لبنان أتت في سياق أزمات كبرى بدورها وكاستجابة لها. نظام المتصرفيّة مثلًا أتى بعد مجازر 1860، واتّفاق الطائف صار والحرب اللبنانيّة مستعرة. ما هو صحيح في لبنان، بالمناسبة، صحيح أيضًا في فرنسا، حيث يقيم سلامة. الجمهوريّة الخامسة ولدت عام 1958 بعد انقلاب الجنرالات في الجزائر وبعد أن وصلت فرنسا إلى حافة الحرب الأهليّة على خلفيّة الصراع بين مؤيّد للبقاء في الجزائر، والانسحاب منها. الجمهوريّة الرابعة ولدت بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية، وعلى خلفيّة أكبر هزيمة عسكريّة منيت بها فرنسا بتاريخها المعاصر. قبلها أيضًا، ولدت الجمهوريّة الثالثة بعد هزيمة فرنسا المدويّة بالحرب الفرنسيّة – البروسيّة عام 1871، وما تبعها من حرب أهليّة دامية كلّلها سقوط 15000 ضحيّة على الأقلّ في كمّونة باريس. هذه مجرّد أمثلة. يمكن إعطاء أخرى كثيرة تنفي ما ذهب إليه سلامة من أنّ زمن الأزمات غير مناسب لطرح مسألة تغيير الأنظمة.

ثانيًا، يذكّر سلامة أنّ السياسات الخارجيّة والماليّة والدفاعيّة منوطة في الدولة الفدراليّة بالحكومة المركزيّة. أمّا وأنّ اللبنانيّين غير متفّقين على هذه السياسات، تكون الفدراليّة "دواء لغير مرض" بحسب سلامة. صحيح طبعًا أنّ الفدراليّة ليست حلًّا للمسائل المذكورة. ولكنّ الزواج المدني الاختياري لا يحلّها بدوره. هل هذا يعني أنّه لا يجب أن يكون عندنا زواج مدني اختياري؟ ولا العدالة الاجتماعيّة والتنمية المستدامة تحلّ الخلاف على السياسة الخارجيّة، فهل هذا يعني أنّه علينا ألّا نسعى لهما؟ ما أحاول قوله هو هذا: لا يوجد فكرة واحدة، أو مشروع، يحلّ منفردًا كلّ المشاكل اللبنانيّة. هذا صحيح بالنسبة للفدراليّة، ولكنّه صحيح أيضًا بالنسبة لكلّ مشروع مطروح آخر، والحدّ الأدنى من النزاهة الفكريّة يفرض الاقرار بذلك. المطلوب هو تشكيلة أفكار تأخذ مجمل الطروحات المناسبة للبنان وتحوّلها الى نظام سياسي جديد. الفدراليّة من هذه الأفكار، وكذلك الحياد كاستجابة لخلاف اللبنانيّين على الخيارات الخارجيّة. بالحقيقة، معادلة حياد + فدراليّة هي المدخل السليم للحلّ في لبنان، وهذه المعادلة بالتحديد هي ما يطرحه الفدراليّون. قال الوزير سلامة البارحة إنّ الفدراليّة شيء، والحياد شيء آخر، وهو على حقّ طبعًا. ما لم يقله سلامة بالمقابل، وليته فعل، إنّ شيئًا لا يمنع الجمع بين الفدراليّة والحياد، وهذا بالتحديد ما يحتاجه لبنان.

ثالثًا، انتقد سلامة استسهال النخب الحاكمة تعطيل النظام اللبناني كلّما اقتضت مصالحها ذلك. "هذه أمور قاتلة للبنان"، قال سلامة، وأضاف: "لا يمكن لهذه العادة اللّعينة أن تدوم وهي عقليّة التعطيل في الحياة السياسيّة". المشكلة مع سلامة هنا أنّه يضع إصبعه على الجرح، ثمّ يتلكّأ عن طرح الحلّ. نعم، تعطيل النظام جزء من لعبة الصراع على السلطة في لبنان. يكفي، على سبيل المثال لا الحصر، التذكير باعتكاف رشيد كرامي لمدّة سبعة أشهر عام 1969، ومقاطعته الرئيس شارل حلو، دون الاستقالة، بهدف تركيع لبنان أمام الزمر الفلسطينيّة المسلّحة آنذاك، بعد أن تفوّق الشعور بالتضامن المذهبي عند كرامة على أبسط بديهيّات مسؤوليّة رجل الدولة. هذا الداء مستمرّ اليوم بأشكال مختلفة، بما فيها ممارسات نبيه برّي وميشال عون في العقد الأخير. ولكن، عندما يتعطّل عمل المؤسّسات الدستوريّة بشكل مستمرّ منذ خمسين عامًا، فيعني ذلك أنّ هذا الخلل جزء لا يتجزّأ من السيستم اللبناني، أي من مركزيّته السياسيّة. بمعنى آخر: هناك علاقة سبب–نتيجة بين قابليّة المؤسسات للعطب السريع بعزّ الحاجة إليها، من جهة، والنظام المركزي القائم حاليًّا، من جهة ثانية. ومن يريد تغيير النتيجة، عليه بجذرها الذي أوجدها أساسًا. هذا ما لا تفعله مقاربة سلامة.

رابعًا، أمّ مشاكل لبنان هي رداءة نخبه الحاكمة. وهذه تصل إلى السلطة وتبقى فيها لأنّها تستخدم سياسات الهويّة كبديل عن التفكير بالسياسات العامّة، وتنفيذها. نجيب ميقاتي، مثلًا، ليس مضطرًّا أن يؤمّن فرص عمل في طرابلس، ولا جبران باسيل مجبور أن يؤمّن الكهرباء في البترون، طالما بامكان ميقاتي أن يلقي مشاكل طرابلس على كاهل باسيل، والعكس. لكان الوضع اختلف تمامًا لو كانت الأقضيّة اللبنانيّة الحاليّة وحدات فدراليّة، تحكمها حكومات مناطقيّة تقبض كلّ منها على 80 بالمئة من الضرائب المدفوعة بالقضاء. في هذا النظام، لن يعود بإمكان النخب السياسيّة رمي المسؤوليّة على الآخرين لأنّ المكلّف يعلم أنّ جلّ ضرائبه تحصّلها الحكومة المحليّة لا المركزيّة؛ ومن جهة ثانية، تكون قدرة الناخب على محاسبة النخبة أقوى بكثير على المستوى المحلّي كما توضح كلّ التجارب في العالم. بهذا يكون تجديد النخب ومحاسبتها ممكنًا بالنظام الفدرالي، بينما هو محال تقريبًا في النظام الحالي المقفل بشكل شبه تامّ.

ولا يعني كلّ ذلك المطالبة بمؤتمر تأسيسي اليوم. السياسة موازين قوى ولا ينبغي للّبنانيّين أن يدخلوا مؤتمرًا تأسياسيًّا عزّلًا، بينما يدخله حزب اللّه بفرق الموت التابعة له، وبصورايخه. الأولويّة اليوم للمواجهة السياديّة مع الحزب؛ ومثير للاهتمام حقًّا بالمناسبة أنّ سلامة تجاهل الموضوع تمامًا. ولكنّ التحرير (أي التخلّص من سلاح حزب اللّه والتبعيّة لإيران)، ولو سبق بالأولويّة الزمنيّة التغيير (أي ضرورة الانتقال من المركزيّة، الى الحياد والفدراليّة)، فهو ليس بديلًا عنه. بالحقيقة، لو حرّرنا بلادنا اليوم، سنخسر حريّتنا غدًا ما بقينا في النظام القائم حاليًّا. ما يحتاجه لبنان تاليًا هو التحرير والتغيير معًا، ولا ضرورة سياسيّة أو أخلاقيّة للخيار بين هذا أو ذاك. الوزير سلامة لم يقدّم خارطة طريق لا لمسألة حزب اللّه، ولا لمسألة النظام. عذرًا، لم نقتنع.