يحاجج حازم صاغيّة بمؤلّفاته أنّ هناك سلسلة مسلّمات قبلتها أجيال متعاقبة من أهل منطقتنا، ومنعتهم من التعاطي بشكل سليم مع السياسة في مجتمعاتهم، ومع العلاقات الدوليّة المحيطة بهم. يدعو صاغيّة بالمقابل لـ"نزع التسحير" (التعبير لماكس فيبير) من فهم مجتمعاتنا للسياسة، واستطرادًا، للعالم الذي يحيط بها. جوهر ما يقوله لنا صاغيّة هو التالي:1) نحن بغربة عن السياسة المعاصرة لأنّنا بغربة عن الأسس الفكريّة التي بنيت عليها. 2) نحن بهذه الغربة الفكريّة لأنّنا متمسّكون بخرافات هي––كما تكون الخرافة بالضرورة–– تشويه ذهني للواقع لأنّها مفصولة عنه. سأحاول في ما يلي تلخيص خمس من أهمّ الخرافات التي تصدّى لها صاغيّة، وهي التالية:
الخرافة الأولى: الأمّة العربيّة تعرّضت للتجزئة على يد الاستعمار الأوروبي. يقول صاغيّة بالمقابل أنّ دولًا عربيّة كثيرة كانت بالحقيقة لتكون أصغر لولا هذا الاستعمار: من قال، يسأل صاغيّة، أنّ الأكراد كانوا ليكونوا في العراق لو أعطوا حقّ الخيار؟ العراق بهذا المعنى "أكبر" بسبب الاستعمار، لا العكس. الأمر عينه صحيح بالنسبة للسودان: انفصال الجنوب عنه تصحيح لخيار "الاستعمار" تكبيره اصطناعيًّا، كما يقول صاغيّة. الأمر عينه أيضًا صحيح بالنسبة لسوريا: دولة جبل العلويّين التي أنشأها الفرنسيّون (أو دولة جبل الدروز) كانت لها شرعيّة شعبيّة أكيدة بين سكّانها، قبل سوقها عنوة للوحدة السوريّة. يسأل صاغيّة: كيف يمكن "تجزئة" ما لم يكن موحّدًا أصلًا؟ (تحديدًا، يتحدّث صاغيّة عن نضال "الكتلة الوطنيّة" في سوريا "للتغلّب على "التجزئة التي لم يسبقها توحيد دولتي"، راجع "قوميّو المشرق العربي"، صفحة 69).
الخرافة الثانية: لمجتمعاتنا هويّة وطنيّة أو قوميّة واحدة وجامعة. ملاحظة صاغيّة هنا مزدوجة: 1) تتشكّل مجتمعاتنا من طوائف، ومناطق، وعشائر، وشعوب (لا بأس، بالمناسبة، من التذكير هنا بعنوان كتاب آخر لحازم مع بيسان الشيخ، "شعوب الشعب اللبناني"). 2) هذه الجماعات لا تحبّ بعضها كثيرًا. السنّي، في العراق، ليس متيّمًا بحبّ الشيعي، أو العكس؛ ولا المسلم بالمسيحي، في لبنان، أو العكس؛ وهكذا في الدول العربيّة عمومًا. أن نقول أنّ الوجه الغالب للنظام السوري علوي، صحيح؛ ولكن يجب أن نقرّ أيضًا أنّ الوجه الغالب (أو "اللون الأهلي"، كما يسمّيه صاغيّة) للثورة السوريّة سنّي، تمامًا كما كان الوجه الغالب للثورة البحرينيّة شيعي، وهكذا. وكما تصطدم الفكرة الأولى بزجليّة الرواية القوميّة عن "الأمّة العربيّة" التي تعرّضت للتقسيم، تصطدم الثانية بزجليّة "وحدتنا الوطنيّة" التي كانت لتكون تامّة لولا تآمر الأشرار عليها.
الخرافة الثالثة: الطوائف والجماعات، على افتراض وجودها فعلًا – وهذا ما لا يستسيغ غلاة الفكر القومي في مجتمعاتنا الاقرار به – ناتجة عن الكولونياليّة الأوروبيّة، وهي تاليًا حديثة المنشأ. ربّما يكون ساطع الحصري أكثر مفكّر قومي أصرّ على "وحدانيّة الأّمّة" وتبرّم تاليًا بالطوائف، وخصوصًا بالشيعة باعتبار عروبتهم "منقوصة" نظرًا لتداخلهم المفترض مع فارس (فكّك صاغيّة منظومة الحصري الفكريّة في الفصل الثاني من كتابه "قوميّو المشرق العربي"). ولكن التبرّم من الطوائف أو على الاقلّ ربطها بالخارج لم يقتصر على مفكّري الرعيل الأوّل الذين درسهم صاغيّة. هناك معارض سوري يدعى ياسين الحاج صالح مصرّ بكتاباته عن سوريا أنّ المسألة الطائفيّة في بلاده مرتبطة بحقبتين: الانتداب الفرنسي، حيث لعب الفرنسيّون على الوتر الطائفي لتبرير الانتداب؛ والحقبة الأسديّة، حيث كرّر النظام الأمر نفسه للبقاء في السلطة. ماذا يعني هذا عمليًّا؟ المسألة الطائفيّة لم تكن موجودة قبل قدوم الفرنسيّين (يعني أثناء السلطنة العثمانيّة)؛ كما لم تكن موجودة أثناء "الحكم الوطني"، يعني بعد رحيل الفرنسيّين، وقبل استيلاء آل الأسد على السلطة. ياسين الحاج صالح سنّي، وما يقوله لنا ضمنًا أنّه عندنا يحكم السنّة (العثمانيّون؛ الأعيان)، تتراجع المسألة الطائفيّة، أو تختفي تمامًا. بالمقابل، عندما يحكم سواهم (الفرنسيّون؛ آل الأسد)، تظهر الطوائف.
بمقابل هذا المنطق، ينتبه صاغيّة إلى دور التقليد الإسلامي في الخلافات والامبراطوريّات الّتي تعاقبت على مجتمعاتنا بصناعة الهويّات، وتاليًا بصناعة المسألة الطائفيّة في المنطقة. مثلًا، يقول حازم عن خلافة بني عثمان: "... تركيب السلطنة لم يكن من النوع الذي يدمج السكّان ويقيم بينهم أيّ نسيج يشدّ بعضهم إلى بعض... لقد تركت الجماعات الدينيّة والمذهبيّة والاثنيّة على حالها طوال قرون تعزّزت فيها الهويّات الصغرى ونزعة الانكفاء عن المركز." (الانهيار المديد، الصفحة 28). يقول صاغيّة أيضًا: "وهذا جميعًا لا يجيز التغنّي بالعلاقات مع أهل الذمّة كما صاغ الاسلام نظريّتها، كما لا يجيز تجميلها مثلما يفعل كثيرون من المسلمين اليوم. فأفكار الحماية والرعاية والضيافة رابطًا بين مواطنين ومواطنين آخرين، ليست ممّا يعتدّ به بإطلاق المعنى. والضريبتان معًا، الخراج والجزية، تبقيان حجّة ضدّ التسامح أكثر بكثير ممّا هما حجّة لوجوده، لاسيّما حين تترافقان مع تمييز في اللباس وركوب الخيل وحمل السلاح والشهادة أمام المحاكم، فضلًا عن مطالبة الذمّي بإبداء الاحترام للمسلم من دون أن يجوز له بناء معابد جديدة، ولو جاز إصلاح القديم منها.
وإذا كان مسيئا حقّا مطالبة المسيحيّين واليهود بدوام البرهنة على أنّهم ليسوا أعداء ولا عدائيّين، فخطير دفع تمايزهم إلى حدود ما يسمّى، بلغتنا الحديثة، حكمًا ذاتيًّا يتولّون فيه أمورهم عبر مطران أو حاخام يكونان همزة وصل بالحكم المسلم... وغالبًا ما لجأت الامبراطوريّات المسلمة، في لحظة أزمتها، إلى سياسات قمعيّة وطاردة عاظمت وجود التجمّعات الأقليّة، الفقيرة والفلّاحيّة، في الأطراف والأقاصي." (قوميّو المشرق العربي، ص 26 – 27). هكذا يلخّص صاغيّة علاقات دول الإسلام مع المختلفين دينيًّا، وهذا التلخيص دقيق. ومن الطبيعي، إن استمرّت هذه الطريقة بادارة المختلفين دينيًّا لقرون––كما حصل فعلًا–– أن تتحوّل هويّاتهم الدينيّة إلى هويّات جماعاتيّة، وهنا بالحقيقة جذر المسألة الطائفيّة بالمشرق العربي، أي في الإسلام، دولة وسلطة وأحكامًا وممارسة. باختصار، يحطّم صاغيّة سرديّتين تحتاجان إلى إعادة تفكير جدّيّ: الأولى هي أنّ الطوائف بالمشرق العربي نتجت عن الكولونياليّة الغربيّة؛ والثانية هي أنّ علاقات المسلمين مع سواهم تميّزت دومًا بحسن المعاملة والسماحة باعتبار الاسلام وسطيًّا لأسباب جوهرانيّة، بغضّ النظر عن الظروف السياسيّة والاقتصاديّة المحيطة به.
(يتبع الجزء الثاني)