هذا المقال هو الجزء الثاني من مراجعة تحاول تلخيص بعض أفكار حازم صاغيّة الأساسيّة كما عرضها في كتبه الأخيرة. توقّف الجزء الأوّل عند ثلاث خرافات فكريّة فكّكها صاغيّة، عنيت خرافة تجزئة "الأمّة العربيّة" على يد الاستعمار؛ وخرافة الهويّة الوطنيّة الواحدة لمجتمعاتنا؛ وخرافة الجذر الكولونيالي المفترض للطوائف والجماعات بالشرق العربي. أتوقّف أدناه عند خرافتين اضافيّتين تصدّى صاغيّة لهما.
الخرافة الرابعة: الغرب عدوّنا الأزلي؛ معركته ضدّنا لا تتوقّف، وتاليا، معركتنا ضدّه لا يجوز أن تتوقّف بدورها. هنا ينبّه صاغيّة:"نزاعنا السياسي مع الغرب فاض عن السياسة الى الاجتماع، وهذا ما كانت له مقدّماته في تكويناتنا العصبيّة المناهضة للحداثة والقيم والباحثة دوما عن القضايا الصراعيّة" (الانهيار المديد، الصفحة 20). يكتب صاغيّة أيضا : "أمّا أحوال المشرق، في المقابل، فظلّت ضعيفة القدرة على تحويل الاقتصادي الى سياسي واجتماعي، وزاد في ضعفها ذلك الميل العميق الى تحويل الخلاف السياسي مع الغرب الى خلاف ثقافي وحضاري، ومن ثمّ صدّ التأثير الغربي وتقليصه بذرائع اسلاميّة أساسا، ولكن أيضا قوميّة ويساريّة أو متمحورة حول النزاع مع اسرائيل" (رومنطيقيّو المشرق العربي، الصفحة 483). انطلاقا من هذه النقطة بالتحديد، يطنب صاغيّة في شرح ما يسمّيه "الضدّية" وهي هذه النزعة في مجتمعاتنا لتعريف أنفسنا سلبيّا، بمعنى أنّنا "ضدّ" شيء، دون أن ننحاز الى أو نمثّل "شيئا" مختلفا. يعني نحن "ضدّ الامبرياليّة"؛ و"ضدّ الاستعمار"؛ و"ضدّ أميركا"؛ دون أن نعلم بالمقابل نحن من، ومع من أو ماذا تحديدا. يقول صاغيّة: "...الاستعمار الذي انتهى في الواقع، لم يمت في اللغة السياسيّة العربيّة. فكأنّ كتابات معظم المثقّفين وخطابات بعض السياسيّين تصرّ على تأبيده الى ما لا نهاية. وهذا ناتج من استمداد التعريف الذاتي من تعريف الخصم، بحيث يصير ابقاء الخصم على قيد الحياة الوسيلة الوحيدة للتأكّد من بقاء الذات واستمرارها. وهو ما حمل على المضيّ في شتم ذلك الخصم وفي خوض المعارك الدونكيشوتيّة معه بعد انقضاء عشرات السنين على نزع الاستعمار" (الانهيار المديد، صفحة 23-22).
ولهذه الضديّة نتائج كارثيّة، خصوصا الأربع التالية:1) أمّا وأنّ الحداثة وقيمها غربيّة؛ وأمّا وأنّنا ضدّ الغرب ومعركتنا معه وجوديّة؛ فطبيعي تاليا أن نكون ضدّ قيم الغرب لا فقط ضدّ سياسته. بهذا يصبح تحرير المرأة شعارا مشبوها لأنّ مصدره غربي؛ كما يصبح النضال من أجل حقوق المثليّين "اعتداء على قيمنا الاصليّة" للسبب عينه؛ وهكذا. 2) أمّا وأنّنا "ضدّ الغرب"، فأبطالنا بالضرورة ضدّه أيضا. تسبّب عبد الناصر بضياع سيناء، والسادات استرجعها. مع ذلك، مشى الملايين في وداع ناصر ("حبيب الملايين") عام 1970، بخلاف الجنازة الباردة للسادات عام 1981. لماذا نبكي من أضاع الأرض، ولا نبالي برحيل من استرجعها؟ لأنّ الأوّل، بخلاف الثاني، "ضدّ الغرب". الأمر عينه يفسّر نوستالجيا صدّام حسين وقد أيّدته ملايين العرب بعد اجتيح الكويت، فبدا، كما كتب صاغيّة، "كم أنّ بطن الضدّيّة خصب ومستشر" (الانهيار المديد، صفحة 223). طبعا، لا أحد عنده حنين لنوري السعيد، مثلا، مع أنّ التاريخ أثبت صوابيّة موقفه: العرب يتقدّمون بالتعاون مع الغرب، لا ضدّه (فكّر بمدن العرب الزاهرة في دبي، أو أبو ظبي، أو الدوحة، أو الرياض، مقابل الخراب "الممانع" في دمشق، أو بغداد، مثلا). 3) اذا ظهر من الغرب، من هو ضدّه قيميّا، فهذا يمكن أن يكون حليفنا، لأنّ الغرب المكروه هو أوّلا الغرب الديموقراطي والليبرالي. فكّر هنا بتودّد الحاج أمين الحسيني لأدولف هتلر؛ أو بما كتبه سامي الجندي، وهو من البعثيّين الأوائل، عن اعجابه ورفاقه بالنازيّة والنظريّات العرقيّة؛ أو باعجاب حسن البنّا بالرايخ الثالث اذ قال: "الرايخ الألماني يفرض نفسه حاميا لكلّ من يجري في عروقه دمّ الألمان"، مضيفا "والعقيدة الاسلاميّة توجب على كلّ مسلم قوي أن يعتبر نفسه حاميا لكلّ من تشرّبت نفسه تعاليم القرآن." (رومنطيقيّو المشرق العربي، صفحة 206). 4) حتّى عندما يدعمنا الغرب، لا نغيّر من ضديّتنا. يذكر صاغيّة أنّ الرئيس كارتر كان منحازا على طول الطريق لمصر في مفاوضات كامب دايفيد (الانهيار المديد، صفحة 190)؛ كما يذكر أنّ الرئيس ايزنهاور أنقذ مصر من هزيمتها العسكريّة عام 1956 (الانهيار المديد، صفحة 118)؛ نعلم أيضا أنّ ادارة الرئيس ريغن كانت منحازة الى لبنان طوال مفاوضات السابع عشر من أيّار؛ ولكن كلّ هذا لا يهمّ: الغرب هو العدوّ، والسلام.
الخرافة الخامسة: فلسطين قضيّتنا المركزيّة؛ تاليا كلّ القضايا الأخرى بالضرورة ثانويّة. يعني هذا التالي: 1) لا بأس من استعداء العالم بأسره من أجل فلسطين، وهذا بالتحديد ما فعلته الجامعة العربيّة عندما رفضت قرار الأمم المتّحدة تقسيم فلسطين عام 1947. 2) كلّ القضايا الأخرى لا قيمة لها ان اصطدمت بالقضيّة الفلسطينيّة: ممنوع على مصر أن تقرّر في السبعينات أنّها ضحّت بما يكفي من أجل فلسطين بعد أربع حروب عربيّة – اسرائيليّة أنهكتها؛ وممنوع على لبنان أن يحاول تجنّب الانزلاق الى الصراع عينه، لأنّه سيتحوّل بسرعة حربا أهليّة بالداخل؛ فلسطين دائما أهمّ. يأسف صاغيّة لأنّ العرب باتوا "يرون العالم من ثقب فلسطين ومواقفه من نزاعها" (الانهيار المديد، صفحة 109).
يقتضي التصدّي للخرافات السابقة الكثير من الشجاعتين الفكريّة والأخلاقيّة–وتحمّل ردّ فعل أصحابها على النقد، علما أنّ قسما منهم على الأقلّ لم يعرف بسعة الصبر، أو بالتهذيب. لا أعرف كيف أترجم "باراديغماتيك شيفت" الى العربيّة، ولكنّ أفكار حازم صاغيّة هي هكذا. المفكّرون العرب الذين يمكن قول الأمر عينه عنهم ليسوا كثرا، أحبّ أن أذكر منهم شريف يونس، وهو صاحب كتب يمكن وضعها بنفس مرتبة كتب صاغيّة، لاسيّما "نداء الشعب" و "الزحف المقدّس"، عن الايديولوجيا الناصريّة. طبعا، "الباراديغماتيك شيفت"، على المستوى الفكري، لا ينتج فورا "باراديغماتيك شيفت" على مستوى الممارسة السياسيّة في المجتمعات، وربّما لا ينتجها أبدا. ولكنّ التغيير السياسي الجذري، كي يحدث يوما، على افتراض حدوثه، يشترط أن يسبقه تغيير جذري أيضا بالأفكار. وحتّى لو حدثت خطوة الى الأمام سياسيّا، دون أن يسبقها تطوّر مماثل فكري، فهي تبقى هشّة وعرضة للسقوط؛ فكّر بمآلات التحوّل الديموقراطي المصري كنموذج. أفكار حازم صاغيّة بهذا المعنى تضع الأساس الفكري والقيمي السليم للتحوّل الديموقراطي في العالم العربي المنكوب بالرومنطيقيّة والممانعة، كما تضع أفكاره الأساس لما هو أهمّ من التحوّل الديموقراطي، ربّما، عنيت التحوّل الليبرالي. ربّما تأتي تحوّلات مجتمعيّة وظروف سياسيّة معيّنة تسمح بترجمة أفكار صاغيّة هذه لمشروع حداثي عربي، وربّما لا تأتي. صاغيّة نفسه طبعا متشائم تاريخي، ان صحّ التعبير، ولعلّه يظنّ أنّ هذه الظروف لن تأتي أبدا. ولكنّ هذا نقاش آخر.