أنطونيو رزق - المجتمع المسيحي قضيّتي

لا خلاف لي مع أحد بخصوص التعاطف الانساني مع ضحايا الأحداث الأخيرة بغزّة، خصوصًا عندما يطال العنف أطفالًا بعمر الورد. بالمقابل، أراقب بقلق متصاعد ديناميكيّتين مقلقتين منذ بدأت هذه الأحداث: أوّلًا، تثبيت وظيفة بلادي كبيدق تستعمله إيران كما تريد، عبر وكلائها الأصوليّين المحليّين. ثانيًا، موجة تعاطف سنيّة عارمة مع فلسطين، تظهر للمرّة الألف صعوبة – وربّما استحالة – أن يقبل المكوّن السنّي بحياد لبنان، وهو شرط حمايته من أزمات منطقة قد تمتدّ لمئة عام بعد.

عود إلى بدء، إذًا. ما الفارق بين الموقف السنّي اليوم من فلسطين، والموقف في الستّينات، زمن اتّفاقيّة القاهرة؟ استطرادًا: متى نتوقّف، كمسيحيّين، عن الوهم، بالنسبة إلى مآلات المشروع اللبناني واحتمالاته؟ ومنذ الخطأ التاريخي الذي زجّ أهالي جبل لبنان بما عُرف بـ"لبنان الكبير"، لم يتوقّف المسيحيّون اللبنانيّون عن محاولة تحويل الخطأ إلى صواب، وعن اجترار سرديّات "مصالحة المسلمين مع اللبننة"، و بناء الدولة "المدنيّة/العلمانيّة"، و"التخلّص من الطائفيّة البغيضة"، وما شاكل. وعند كلّ محطّة مفصليّة كبرى، يبدو انفصال صورة المسلمين اللبنانيّين كما يريد لهم المسيحيّون أن يكونوا - أي كلبنانيّين لا تحرّكهم سوى مصلحة لبنان حصرًا - عن واقع المسلمين كما هو عليه فعلًا، أي كأعضاء بأمّة دينيّة عابرة للحدود، يقيمون بلبنان.

وبعد قرن على خطيئة "لبنان الكبير"، ماذا حقّقت أوهام المسيحيّين لهم، أو للمسلمين، أو للمشروع اللبناني؟ وهل نحن اليوم أقرب ممّا كنّا عليه من تحقيق أيّ خرق في مصالحة المسلمين مع فكرة الولاء للدولة والوطن بدل الأمّة، والعلمانيّة؟ تحدّث الكاتب الفرنسي "جيل كيبل" في كتابه "انتقام الله" عن تفاقم قوّة تأثير الحركات والإيديولوجيّات الدينيّة في الفضاء السياسي منذ أواسط سبعينات القرن الماضي بعد فشل الإيديولوجيّات العلمانيّة المستوردة من الغرب مثل القومّية، الاشتراكية أو الشيوعيّة في تحقيق الاستقرار والازدهار للشعوب التي اعتمدتها. وبالفعل، يظهر "انتقام الله" الّذي تحدّث عنه كيبيل كلّ يوم أكثر في منطقتنا ذات الأكثريّة المسلمة. الخمينيّون استطاعوا تصدير ثورتهم بنجاح مبهر إلى 4 دول في المنطقة، والحبل على الجرّار. أمّا لدى المسلمين السنّة، فهناك حقيقة لا مفرّ منها هي التالية: ممارسة الديموقراطيّة وإجراء انتخابات في الدول ذات الأكثريّة السنيّة اليوم تؤدّي إلى فوز الحركات الاسلاميّة، ونتائج ما عُرف بـ"الربيع العربي" خير دليل على ذلك.

وفي لبنان، صوّت 95 في المئة من الشيعة الذين شاركوا في الانتخابات النيابيّة الأخيرة لصالح حزب الله وحلفائه، وفق كتاب "الديموقراطيّة المؤجّلة" للإعلامي جان نخّول. واليوم نرى صور "أبو عبيدة"، الناطق العسكري باسم الجناح العسكري لحركة "حماس" الأصوليّة المتطرّفة، تُرفع في شوارع بيروت السنيّة الشعبية، فيما دُمّرت وحُرقت أرزاق بعض أهالينا في عوكر لأنّ بعض المخرّبين يريدون تفريغ حقدهم الديني والطبقي على المسيحيّين تحت عنوان "التضامن مع فلسطين" الذي لطالما شكّل إسمًا حركيًّا لاستباحة مناطقنا في لبنان. وبما أنّ الشيء بالشيء يذكر، فلا ننسى أنّ مباراة منتخب المغرب لكرة القدم على منتخب البرتغال في النسخة الأخيرة من كأس العالم لكرة القدم كانت قبل أشهر مناسبة لغزو الأشرفيّة من قبل بعض الغوغائيّين، مردّدين "يا الله، باسم الله، الله وأكبر" وكأنّهم استعادوا الأندلس.

هل يمكن لنا فعلًا كمسيحيّين أن نبني أيّ شيء مشترك مع وعي أكثري مأزوم لهذه الدرجة؟ ألم نكتف من تجربة "لبنان الكبير" العقيمة؟ ألم نسأم من الاستسلام للواقع الذي لا يطاق الذي تفرضه علينا الهويّات العابرة للحدود؟ ألم تعث القوى الأصوليّة ما يكفي في أرضنا فسادًا واضطهادًا وتهجيرًا؟ هل التمسّك بشعار الـ"10452 كيلومتر مربع" الذي قال به يومًا القائد الشهيد بشير الجميل، أهمّ من استمرار وجود المجتمع المسيحي، وازدهاره؟ هل الشعارات أو الحدود أو الأوهام والأحلام بعيش مشترك سلمي بين المسيحيّين والمسلمين أهمّ من كرامة الفرد في مجتمعنا وسلامته وازدهاره وتطوّره وحريّته؟ هل علينا أن نضحّي بآخر وجود مسيحي وازن في منطقةٍ فُرّغت تمامًا من المسيحيّين على يد الحركات الإسلاميّة الأصوليّة الشيعيّة والسنيّة، لكي يقتنع المسيحيّون اللبنانيّون أنّ العيش المشترك مع المسلمين في دولة واحدة يعني تهجيرهم، وإخضاع من يبقى لهيمنة الأكثريّة الديموغرافيّة؟ أخيرًا، ألم يحن الوقت لنقول إنّ "لبنان الكبير" خطأ مميت ولا يمكن إصلاحه سوى بالعودة إلى "لبنان التاريخي" الذي يشبهنا، قبل أن يفوتنا الآوان كما فات مسيحيّي العراق وسوريا وفلسطين؟