جوزف بو شرعة - ممنوعٌ عليك التّفكير أيّها المسيحيّ (قراءةٌ في سياسة التّرهيب الفكريّ ما بعد الحرب)

لقد أدرك كانط مثل أرسطوطاليس الذي سبقه أنّ الإنسان حيوانٌ سياسيٌّ فضلًا عن كونه عاقلًا. وبديهيًّا لا مجالَ سياسيًّا من دون القدرة على التّفكير، ولا أعني بذلك عمليّة ربط المسائل ببعضها على المستوى المعرفيّ السّطحيّ، بل المراجعة النّقديّة التي تستلزم حرّيّةً لا رقابةَ عليها. لذلك تكون هذه المساحة السياسيّة في الدّول التّوتاليتاريّة ضيّقةً، أو منعدمةً، وتاليًا يضيق أفق التّفكير، فيصبح الإنسان كائنًا لا يعنيه سوى تلبية حاجاته البيولوجيّة/المادّيّة... ونظرًا لأهمّيّة هذه القدرة الطّبيعيّة كان جواب كانط على سؤال ما التّنوير؟ مُلخَّصًا بالعبارة اللّاتينية "Sapere Aude": تجرّأ أنْ تفكّر. ولا عجبَ أنْ يتّخذ نظام الطّائف في لبنان سياسة التّرهيب الفكريّ بالإستعانة بنظام البعث السّوريّ لقمع مساحة التّفكير لدى الإثنيّات المسيحيّة التي رأى في تسييسها خطرًا على امتيازات أصحابه الموعودة. لكنّ الأخطر من ذلك هو ثبات هذه السّياسة بعد انسحاب الاحتلال، بل اعتمادها ركيزةً على أيدي أطرافٍ يفترض بها مشاركة هذه الإثنيّات المواطنة اللّبنانيّة المفترضة، أعني الأحزاب العربيّة القوميّة والإسلامويّة.

التّرهيب الفكريّ سياسة نظام الاحتلال السّوريّ

تمظهرت نشوة الانتصار الطائفيّ بعد الحرب بالممارسات القمعيّة التي مارستها السّلطة اللّبنانيّة بالتّعاون مع نظام الاحتلال. فبدأت سياسة التّغيير الدّيمغرافيّ الخطيرة المستوحاة من سياسة ألمانيا النّازيّة عبر توسيع "المساحة الحيويّة" لألمانيا وإغراق الدّول المحتلّة بكتلٍ سكّانيّةٍ ألمانيّةٍ (بولندا مثالًا، حيث وطّنت الحكومة النّازيّة مستوطنين ألمان مكان البولنديّين). ولم يقتصر الأمر على التّغيير الدّيمغرافي، بل اعتمد المنتصرون العنصريّون الطّائفيّون سياسة الاستعمار الغربيّ عبر شراء أراضي الإثنيّات المسيحيّة أو السّيطرة على المشاعات القريبة منها (وهي سياسةٌ لا تزال قائمةً في لبنان). لكنّ أخطر تلك الممارسات هو التّرهيب الفكريّ، حيث سعى نظام الاحتلال إلى قمع كلّ محاولةٍ سياسيّةٍ ناشئةٍ من هذه المجتمعات بتهمٍ حاضرةٍ مسبقًا أوّلها العمالة، تليها تهديد السّلم الأهليّ، وصولًا إلى تخريب العلاقات بين دولةٍ صديقةٍ...

طبعًا أدّت هذه الممارسات إلى نشوء رقابةٍ ذاتيّةٍ عند الفرد بلغت حدّ الخوف من التّفكير، فهاجرت الأدمغة الحرّة والمتحرّرة من شعبنا، فيما بقي المناضلون يكافحون وحدهم بصمتٍ. فقد تغلغل هذا التّرهيب الفكريّ في داخل المجتمعات المسيحيّة حتّى باتت المساحة السّياسيّة محرّمةً، وانصرفت "النّخبة" إلى اللّهو والتّسلية بعد أن كانت سابقتها معنيّةً أكثر بالشّأن العامّ.

لقد خدّر التّرهيب الفكريّ المجتمعات المسيحيّة حتّى امتنعت عن التّفكير، وتاليًا خرجت عن السّياسيّ نحو الاستهلاكيّ، ثمّ عوّضت عن هزيمتها بخطابٍ لبنانيّ شوفينيّ، وكأنّ التّطهير الإثنيّ الذي لحق بشعبنا في الجبل والجنوب، أو المجازر الطّائفيّة التي فتكت به هي عارضٌ صحّيٌّ بسيطٌ لا يُلامُ عليه سوى "الغريب" غير اللّبنانيّ، أمّا الآن فوَقْت نهضة الفينيق... حتمًا بروباغندا ما بعد الحرب مذهلةٌ من ناحية التّنافر المعرفيّ "Cognitive dissonance"، فلا عجبَ أنْ يستخدمَ النّظام الأوليغارشيّ اللّبنانيّ الذي يحكمه الإسلام السّياسيّ أسلوب التّرهيب الفكريّ نفسه.

التّرهيب الفكريّ سياسة النظام الأوليغارشيّ اللّبنانيّ

ظنّت النّخبة المسيحيّة أنّ خروج الاحتلال السّوريّ سيفتح مسارًا جديدًا في العلاقات بين الإثنيّات المسيحيّة والمجتمعات الإسلاميّة المتمثّلة بالنّظام الأوليغارشيّ الذي اُعيد تعويمه برضى الأحزاب المسيحيّة التي ارتضت أنْ تكون لاعبًا ثانويًّا في دينماميكيّة الثّنائيّات السّياسيّة (وضمنًا الطّائفيّة). ولكنْ استُحضِرَ التّرهيب الفكريّ مجدّدًا في الخطاب السّياسيّ اللّبنانيّ ضاربًا أحلام النّخبة المسيحيّة الطّوباويّة التي أقنعت نفسها بشعار "حرب الآخرين على أرضنا"، وأضافت الولايات المتّحدة (والغرب) إلى قائمة الملامة، فيما أصبحت سياسة التّرهيب الفكريّ جزءًا من العقد الاجتماعيّ بين المسيحيّين والمسلمين. والأمر لا يقتصر على الخصوم (أو الأعداء)، إذ نراه في ديناميكيّة العلاقات بين الحلفاء "المفترضين" (انظر علاقة حزب الله بالتّيّار، والقوى المدنيّة ذات الخلفيّة العربيّة الإسلاميّة بالكتائب)، بل السّياسة نفسها نجدها موجّهةً ضدّ المؤسّسات الدّينيّة المسيحيّة (كما في حالة المطران موسى الحاج مؤخّرًا).

لقد نشأت الأجيال المسيحيّة اللّبنانيّة منذ التّسعينات في دولةٍ تكرههم عمليًّا. إذ لم تشهد هذه الأجيال سوى خطاب الكراهية، والتّخوين، والاستهزاء بتاريخها وإرثها، فضلًا عن الاعتداءات على الممتلكات والرّموز الدّينيّة والقوميّة الخاصّة بها. لقد شبّ الأطفال الأرمن على مشاهدة رفع الأعلام التّركيّة في ذكرى الإبادة الأرمنيّة، وشهد التّلاميذ الموارنة تزويرًا استعماريًّا/استكباريًّا لهويّتهم السّريانيّة، وصُدِمَ الشّباب الرّوميّ بمباركة سياسيّين لبنانيّين على تحويل رمز هويّتهم إلى جامعٍ (أجيا صوفيا)، خصوصًا بعد أن ساومت نخبتهم الرّوميّة ببيع الهويّة مقابل المواطنة الموعودة، فخسرت نفسها والمواطنة، ثمّ أضحت فاقدةً أدنى الحقوق الثّقافيّة والسّياسيّة. لكنّ الصّدمة الأكبر كانت السّلوكيّات المتكيّفة مع الإرهاب الإسلاميّ الذي نشأ في العراق وسوريا، وتحديدًا تنظيم داعش، حيث افترض العديد من المسيحيّين موقفًا حازمًا ضدّ ممارسات هذا التّنظيم من المجتمعات الإسلاميّة على المستوى الشّعبيّ. بيد أنّهم وجدوا تأييدًا ضمنيًّا أو لامبالاةً متكيّفةً مع التّطهير الإثنيّ الذي لحق بالأقلّيّات الدّينيّة والقوميّة.

فشل سياسة التّرهيب الفكريّ

أيقظت هذه الأحداث العنيفة، فضلًا عن التّمييز الطّائفيّ والإثنيّ اللّاواعي، إحساس العدالة في المجتمعات المسيحيّة في الشّرق، وفي لبنان خصوصًا. وشرعت أجيالٌ تصرّح علنًا بحقوقها السّياسيّة والثّقافيّة، وهو أمرٌ لم يكن ليتجرّأ على التّفكير به من سبقهم. زِد على ذلك المساحة الحرّة الذي فرضها التّطوّر التّكنولوجيّ، حيث لم يعد احتكار المعلومة سلاحًا لقمع الإثنيّات المسيحيّة، بل بات حجّةً يستعملها الشّباب المسيحيّ في نضاله المشروع. وما نشهده مؤخّرًا من وعي شابّ سينعكس بالضّرورة على الأجيال المخضرمة، بل سيحفّزها مجدّدًا على التّفكير، وسيحطّم تدريجيًّا حائط التّرهيب الفكريّ في سبيل مسارٍ تحرّريّ منشودٍ.