ليس واضحا أنّ دوافع الهجوم الذي وقع البارحة على مدرسة في دبلين، وأدّى الى جرح خمسة أشخاص، منهم ثلاثة أطفال، ارهابيّة. لا تزال الشرطة تحقّق بما جرى، واستبعد الناطق باسمها أن تكون المسألة مسألة ارهاب. ولكنّ ردّ الفعل في شوارع المدينة لم يتأخّر: ثار المئات من مؤيّدي اليمين القومي ضدّ الشرطة – المتّهمة بالتساهل مع المهاجرين – فيما أوحت تعليقاتهم أنّ نظريّة "الاستبدال الكبير"، (أي الخوف من استبدال العنصر الأبيض – المسيحي، بعناصر مهاجرة، في دول الغرب) وجدت طريقها الى ايرلندا.
بهذه الأثناء، حلّ اليمين القومي أوّلا بانتخابات هولندا. يعيش زعيمه غيرت ويلدرز بحماية الشرطة منذ قتل اسلاميّون المخرج الهولندي ثيو فان غوغ عام 2004. ومعروف عن ويلدرز رفضه الشديد لسياسات الهجرة ببلاده – عدد سكّانها 18 مليون، وتستقبل كلّ عام مئتي ألف لاجئ، جلّهم من الشرق الأوسط – وعداؤه للاسلام، عبّر عنه من خلال اقتراحات كضرورة منع القرآن في هولندا، والحجاب، وبناء المساجد.
وبهذه الأثناء أيضا، تدرس الحكومة اليمينيّة السوديّة اقتراحا بطرد اللاجئين الذين حازوا على الجنسيّة السويديّة ان كانوا يعيشون "حياة غير مشرّفة". وتثير هذه المسألة جدلا واسعا بالسويد، اذ كيف يمكن تحديد "المشرّف" من "غير المشرّف"؟ أن تصل الأمور الى هذا الحدّ ببلد عرف عنه تقليديّا انفتاحه، وقيم ليبراليّة جدّا، يشي بعمق الأزمة وحدّة الجدل المرتبط باللاجئين، في المجتمع السويدي.
حدث كلّ هذا بالأيّام الأخيرة. يمكن الاضافة الى ذلك أخبار مثيرة للذهول من نوع استعداد لندن لتجاهل الشرعة الأوروبيّة لحقوق الانسان كي تتمكّن من ارسال مئات من اللاجئين الى رواندا؛ أو صدّ الشرطة اليونانيّة قوارب لاجئين، ولو غرقوا بالبحر؛ أو تبرّم الحكومة الايطاليّة من مبادرات فرديّة انسانيّة تهدف لانقاذ قوراب محمّلة باللاجئين من الغرق، قرب الشواطئ الايطاليّة.
كيف يمكن تفسير كلّ ذلك؟
الأكيد أنّ المعطى الأوّل هو جاذبيّة أوروبا، وقربها الجغرافي. لا أحد يحلم بالهجرة الى روسيا، أو الصين. المسألة مختلفة، بالمقابل، مع فرنسا، أو ايطاليا، أو المملكة المتّحدة. يستبطن السباق المحموم للانتقال الى أوروبا الليبراليّة رغبة انسانيّة طبيعيّة لا فقط بالرخاء المادي، بل أيضا بالحريّة، والكرامة الفرديّة المحفوظة بحماية القانون.
المعطى الثاني هو تعقيدات المسألة الاقتصاديّة بعد عقود من التحوّل النيوليبرالي. الأكيد أنّ هذا التحوّل خلق بآن طبقة كبيرة استفادت من انفتاح الأسواق على بعضها، وطبقة أكبر بعد من الخاسرين. في الولايات المتّحدة، مثلا، يشير استطلاع للرأي تلو الآخر، أنّ الايمان ب"الحلم الأميركي" يتراجع، بمعنى أنّ المتفائلين بامكانيّة تحقيق التقدّم الاجتماعي من خلال العمل الشاقّ، والاتّكال على الذات، يتقلّصون. وما هو صحيح في الولايات المتّحدة، صاحبة أكبر اقتصاد بالعالم، صحيح أيضا بدول أوروبا الغربيّة. وبهذا الجوّ، لا أحد يرغب بدفع المزيد من الضرائب لايواء لاجئين من افغانستان مثلا، وتعليمهم.
المعطى الثالث هو التطرّف الديني الاسلامي، وارتباط صورة الاسلام بالهجمات الارهابيّة المستمرّة الى الساعة في دول أوروبيّة مختلفة، لاسيّما فرنسا. استطرادا، تبدو المجتمعات الاسلاميّة أسيرة منظومة قيم مفرطة برجعيّتها بمسائل تتعلّق بالمرأة، أو حقوق المثليّين، أو حقوق الأقليّات الدينيّة، أو معاداة الساميّة. يخلق هذا حذرا من المهاجرين المسلمين حتّى بالأوساط الليبراليّة، دع عنك الأوساط الأخرى.
المعطى الأخير، هو مأزق الديموقراطيّة بعالم معولم، تتبدّل فيه الطبقة الحاكمة كلّ فترة، دون أن تتغيّر الأوضاع جديّا بالنسبة للناخبين. يبدو، بهذا المعنى، أنّ النخب الحاكمة فقدت السيطرة على حدود بلدانها، واقتصاداتها، وتاليا، سيادتها. يبدو أيضا أنّ هذه النخب مرتبطة بشركات عالميّة، ومصالح عابرة للحدود، لا بارادة ناخبيها. كراهية الهجرة، التي قبلت بها النخب الحاكمة الأوروبيّة، أو أقلّه عجزت عن وقفها، من كراهية النخب الحاكمة ذاتها.
تتفاعل كلّ هذه المعطيات مع بعضها لتنتج مشهد حرب حضارات، أو حروب أهليّة، بشوارع المدن الأوروبيّة. وبهذا الجوّ، لن تكون مفاجأة قصوى أن يحقّق اليمين القومي الأوروبي انتصارات جديدة لاحقا بألمانيا، وأيضا، فرنسا. أخطر ما بهذا اليمين أنّه غير مستعدّ لمواجهة بوتين. وعلى افتراض أنّ موجة الانتصارات اليمينيّة استمرّت فعلا بأوروبا، فيما عاد ترامب الى السلطة بواشنطن، فسيواجه زعيم الكرملين مشهدا عالميّا مختلفا، ومناسبا له. وما هو جيّد للكرملين، سيّئ بالضرورة لقضيّة الحريّة بأيّ مكان بالعالم.