زمن التشاطر

سامر سويد

لا يمكن التوقّف عند كلمتي رئيس التيّار العوني جبران باسيل و حليفه أمين عام حزب الله حسن نصر الله الأخيرتين دون الذهول من قدرتهما على التشاطر والحذلقة السياسيّة. ما أقصده هو منهجيّة استبدال الحجّة والواقع بالكلام الفارغ من أيّ مضمون، ما عدا الشحن المستمرّ للحوافز الغرائزية، وهو آخر ملجأ كما يبدو لمن باع إرادته للمحتلّ الإيراني.

حسن نصر الله يضع نفسه في موقع نقيض لداعش من جهة، ثمّ يستسهل تخوين ملك السعوديّة بل يكاد يكفّره باعتباره ارهابيًّا. أليس هكذا كانت تفعل داعش، عنيت التخوين الفوري لكلّ من لا يتوافق مع نظرتها للإسلام والسياسة؟ أكثر من ذلك، تطرح المملكة العربية السعودية منذ فترة تصوّرًا جديدًا وصحيحًا لمستقبلها، ومستقبل المنطقة؛ ومع الاقرار طبعًا أنّ طريق التغيير المأمول للمملكة طويل، إلّا أنّها تسير على الوجهة الصحيحة، بعكس نظام آيات اللّه في إيران. هذا ما لن يقوله نصراللّه بطبيعة الحال، ولكنّه يبقى مع ذلك صحيحًا.

ثمّ يعيب حسن نصر الله على الملك السعودي وقوفه إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وهي الجمهوريّة الليبراليّة الأولى في العالم، وقائدة العالم الحر. نقولها علنًا: النموذج الإيديولوجي المطلوب للسعوديّة، ولبنان، والمنطقة عمومًا، يأتي من الولايات المتّحدة، والديموقراطيّات الغربيّة. الانحياز للّيبراليّة، والديموقراطيّة، وحقوق الانسان ليس تهمة، ولا ريب أنّ جلّ الليبراليّين العرب، ونحن منهم في لبنان، يفخرون بتماهيهم مع قيم العالم الحرّ. بالحقيقة، واحدة من الغايات الأساسيّة لمعركة الاستقلال اللبناني عن إيران هي الربط القيمي مع العالم الحرّ، لأنّ قيمه طريقنا إلى الأمام، وقيم النظام الإيراني ارتداد رجعي إلى الوراء.

أمّا بالنسبة لجبران باسيل، فصدق المثل الشعبي: :"يا مبدّل غزلانك بقرود". ما نقصده هو ما بات واضحًا أنّ لا فكاك ممكنًا بين التيّار الوطني الحرّ بزعامة باسيل، والمحور الإيراني، ليكون باسيل بذلك الجهة المسيحيّة الوحيدة عبر التاريخ اللبناني التي استبدلت المرجعيّة الليبراليّة الغربيّة بإيران، وقيم الوليّ الفقيه. مؤسف أن ينصّب باسيل مسيحيّي الشرق مؤتمنين على "القدس العربيّة"، في استعادة لأدبيّات وخطاب لم يكن يومًا جزءًا من خطابهم في لبنان. ثمّ أنّ باسيل، على ما يبدو، يريد تحرير القدس "العربيّة"، من خلال محور فارسي، وشرّ البليّة ما يضحك. الأمر عينه صحيح بالنسبة لزعم جبران الانحياز للمقاومة والدولة معًا. هل يمكن أن يقول لنا أيّ فقيه قانوني زيّن له إمكانيّة التعايش بين الدولة ونقيضها؟ الّا طبعًا إذا كان مفهوم باسيل للدولة فضفاضًا لدرجة تحاكي عباءات ملالي مرجعيّته في حزب ولاية الفقيه.

ولكنّ تشاطر باسيل يصل الى ذروته مع اعتباره الفدراليّة مرادفة للتقسيم. على أيّ أساس علميّ، أو حدّ أدنى من منطق، يستند مثل هذا الكلام؟ أكتب هذا المقال من سويسرا حيث أقيم: أليست سويسرا فدراليّة وبلدًا واحدًا موحّدًا، تمامًا كما هي الامارات، أو الهند، أو كندا مثلًا؟ لماذا الفدراليّة في كلّ هذه الدول طريق الشعوب صوب العيش معًا على الرغم من الفروقات الدينيّة واللغويّة، وهي عندنا فقط "تقسيم"؟

الجواب أنّ عقليّة التشاطر تعيش بعالم سحيق، لا مكان فيه أو ضرورة للمنطق السليم، أو الاعتراف والاستفادة ممّا حققّته البشريّة من تقدّم فكريّ، وقانونيّ، والأهمّ ربّما، قيميّ وأخلاقي. يستحقّ لبنان ما هو أفضل من هذا. لن نقول أكثر.