هشام بو ناصيف - النصراني "الشريف" بحسب حسن مرعب

نشر الشيخ حسن مرعب، المفتّش العام المساعد بدار الفتوى، صورة لكاهن يقول انّه سيرفع الآذان من الكنيسة في غزّة، ان لم يتمكّن المسلمون من رفعه في الجوامع. ما لم يقله مرعب، ولكنّه مفهوم ضمنا، أنّ العكس لا يمكن أن يكون صحيحا: تحت أيّ ظرف، لا يمكن أن يسمح المسلمون ل"النصارى" برفع الصلاة في الجوامع، باعتبار النصارى كفّار دينيّا، ومن "الضاليّن". أهميّة حسن مرعب تأتي من كونه يفضح بشكل متكرّر فهم الوعي الأكثري للعلاقة مع الأقليّة الدينيّة كما استقرّت تاريخيّا في هذه المنطقة من العالم، عنيت علاقة تراتبيّة (Hierarchical) فيها من هو فوق – بكلّ المعاني السياسيّة، وأيضا، الأخلاقيّة – ومن هو تحت، بمجرّد صدفة الولادة في هذا الدين أو ذاك. وتماما كما كانت العلاقة تراتبيّة تاريخيّا بين البيض والسود في الولايات المتّحدة الأميركيّة، قبل مسار طويل بدأ مع ابراهام لينكولن في القرن التاسع عشر، واستكمل مع مارتن لوثر كينغ ومالكولم اكس في القرن العشرين، العلاقة تراتبيّة بدورها بين المسلمين وسواهم عندنا. الفارق الكبير، طبعا، أنّ الأقليّة تمكنّت بالولايات المتّحدة من التحالف والاتّكال على قطاع ليبرالي واسع ينتمي للأكثريّة – لينكولن ومؤيّدوه الذين رفضوا نظام العبوديّة (Abolitionists) كانوا من العنصر الأبيض؛ وكذلك كان ليندون جونسون، الرئيس الأميركي الذي وقّع عام 1964 على ال "سيفيل رايتس آكت" الذي جرّم التمييز العنصري في الولايات المتّحدة – في حين أنّ اتكّال الأقليّة بمنطقتنا على ليبراليّي الأكثريّة ساقط سلفا، لأنّهم موجودون كأفراد معزولين بمجتمعاتهم، لا كقوى سياسيّة فاعلة، أو كرأي عام عريض.

والحال أنّ العلاقة بين موارنة جبل لبنان والوعي الأكثري متوتّرة تاريخيّا بحكم هذه الخلفيّة تحديدا. الماروني لا يريد أن يعيش كنصراني "شريف"؛ ثمّ أنّه قادر على التمرّد على هذا القدر بحكم ثلاثة: الملجأ الجبلي الوعر، العصبيّة القتاليّة، والانفتاح القديم على العالم الغربي. وما بقيت الخلافات الاسلاميّة تحكم المنطقة، لم يكن الوعي الأكثري مضطرّا للجوء لحيل لغويّة لتبرير قمع الأقليّات الدينيّة متى عصت، كما تظهر، على سبيل المثال لا الحصر، الأعمال الممتازة للمؤرّخ الدكتور عبد الرحيم أبو حسين بدراساته عن دروز السلطنة العثمانيّة. بمعنى آخر، كان يمكن اللجوء للتبرير الديني لقتال الأقليّة المغايرة دينيّا، بدون فذلكة أو مساحيق. أمّا بعد قيام الدولة العربيّة الحديثة، فما عاد بالامكان الافصاح عن مكنونات الصدور لجهة الاحتقار الديني والفوقيّة السياسيّة، باعتبار أنّ هذه الدول تقوم نظريّا على المواطنة. تاليا، تمّ اختراع معجم لغوي (Repertoire) يمكن استعماله لتذكير الأقليّة بقواعة اللعبة، من نوع "نصراني شريف"، عند الحاجة للتربيت على كتف الذمّي؛ و"انعزالي"، "فاشي"، "عميل سفارات"، "صهيوني"، "يهود الداخل"، عند الاشتباك مع من ينسى قواعد اللعبة. والموارنة غالبا ما نسوا.

لا جديد تحت الشمس، اذا، عندما يقول لنا مرعب أنّ المسيحي الجيّد هو من يعلم أنّه دون أسياده المسلمين مرتبة. الخميني لم يتعاط بطريقة مختلفة مع مسيحيّي ايران، ولا فرق، بالمناسبة، بين وعي ديني سنّي، ووعي ديني شيعي، بهذه المسألة بالتحديد. ما هو جديد، بالمقابل، هو هذا: التيّار الوطني الحرّ ليس تفصيلا لجهة حجمه بين المسيحيّين، وقد برزت فيه منذ فترة أصوات كثيرة يبدو أنّها استكانت فعلا للوضعيّة التي يريدها لها مرعب. هذه سابقة، لا لأنّ الذميّين لم يظهروا يوما بين الموارنة، بل لأنّهم كانوا دوما على هوامش المجتمع، وليس بمتونه السياسيّة. والحال أنّنا لا نستطيع أن نراهن على تغيير الوعي الذي يظهّره حسن مرعب؛ التفاؤل بهذه المسألة بالتحديد ليس له ما يبرّره مهما تفلسف التعايشّيون، ونظّروا. ولكنّنا نستطيع الطلب من القوى التي تشكّل رافعة للذميّين بين ظهرانينا طردهم منها، كما نستطيع، ان لم تفعل، معاقبة هذه القوى سياسيّا، كناخبين وناشطين.