هشام بو ناصيف
من الصعب تفنيد ظروف نشأة داعش بمقال. يمكن بالمقابل القول بكثير من الثقة أنّ المظلوميّة السنيّة في دول المشرق العربي هي الخلفيّة النفسيّة والسياسيّة لتشكّل التنظيم، وبأنّ سياسات إيران ومحورها في العراق وسوريا ولبنان في جذر المظلوميّة السنيّة بمنطقتنا. تاليًا، هذه السياسات مسؤولة بشكل مباشر عن توفير البيئة المناسبة لنشوء داعش، وتوسّعها. ينبغي هنا التذكير بما يلي:
1) سياسات رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي بحقّ المكوّن السنّي العراقي كانت اقصائيّة من يوم وصوله إلى السلطة عام 2006، إلى يوم خروجه منها عام 2014. يعلم متابعو سياسات العراق أنّ "القاعدة" – أي التنظيم الأمّ الذي خرجت داعش من رحمه – كانت وصلت إلى الحضيض، وكادت تختفي في معقلها السابق بألانبار العراقيّة، بعد تشكيل العشائر السنيّة هناك لميليشيات الصحوة، وشنّها حربًا على "القاعدة" حطّمتها، أو كادت، بعد وصول "القاعدة" إلى ذروة نفوذها بالأنبار في 2006/ 2007. لم يكن قتال "القاعدة" سهلًا على رجال الصحوات، وقد سقط المئات منهم في المعارك مع ا"لقاعدة"، أبرزهم الشيخ العشائري عبد الستّار أبو ريشة، زعيم الصحوات بالأنبار. يبقى أنّ الصحوات انتصرت، بدعم مالي ولوجيستي أميركي، وبتعهّد أنّ رجالها سيصبحون جزءا من الجيش العراقي بعد تنظيف الأنبار من "القاعدة". كلّ المعطيات المتوافرة تفيد أنّ الأميركيّين كانوا راغبين فعلًا بضمّ الصحوات إلى جيش العراق. باستثناء طبعًا أنّ الانسحاب الأميركي من العراق الذي ابتدأ عام 2007، استكمل عام 2011، ليصبح رئيس الوزراء نوري المالكي، حليف ايران، اللاعب السياسي الأقوى في البلاد. ولا يتّسع هذه المقال لتعداد كلّ ما اقترفه المالكي الطائفي بأهل السنّة في العراق، بما في ذلك نكث الوعد المعطى لرجال الصحوات بضمّهم الى الجيش؛ والسماح لقوّات الشرطة العراقيّة بإطلاق النيران وقتل متظاهرين سنّة عزّل بأكثر من مناسبة؛ وتحويل القوى الأمنيّة العراقيّة عمومًا إلى ميليشيات طائفيّة لا تتورّع عن تكرار ارتكاب المجازر بحقّ السنّة (فكّر بمجزرة بلدة بهرز السنيّة، قضاء ديالى، عام 2014، حيث قتلت قوّات الأمن العراقيّة العشرات، ثمّ علّقت جثثهم على عواميد الكهرباء، في جريمة لا يمكن وصفها بغير التطهير الطائفي)؛ وتهميش السياسيّين السنّة بمن فيهم طارق الهاشمي، نائب الرئيس العراقي، الذي فرّ من بغداد الى كردستان بعد اتّهمه المالكي بدعم الارهاب. هذا غيض من فيض السنوات الراعبة التي عاشها المكوّن السنّي بعد إحكام المالكي قبضته على العراق. طبيعي، والحال هذه، أن يسهّل الاحباط السنيّ العام دعاية "القاعدة" وقدرتها على تجنيد الشباب السنّة المحبطين، بمن فيهم عناصر قاتلوا ضدّها سابقًا في الصحوات. باختصار: "القاعدة" كادت أن تموت في العراق بين 2007 و 2011، ومن قتلها سنّة زعمت القتال باسمهم، قبل أن تبعثها حيّة سياسات المالكي الطائفيّة.
2) ثمّ جاءت الفرصة الكبيرة بالحرب السوريّة. أيّ ظروف أفضل لمنظمّة ارهابيّة تريد أن تقنع جماعة معيّنة بأنّها معرّضة للابادة، من قيام أعداء هذه الجماعة باستخدام الأسلحة الكيمائيّة ضدّها؟ هذا بالظبط ما فعله نظام بشّار الأسد تكرارًا في الحرب السوريّة، بما ذلك مجزرة الغوطة الشهيرة، شرق دمشق، عام 2013. كلّ استراتيجيّة الأسد في الحرب قامت على شيطنة الثورة الشعبيّة ضدّ حكمه لتسويق نظامه باعتباره أهون الشرّين، وخطّ الدفاع الأخير عن سوريا ضدّ المتطرّفين. لم يكتف الأسد تاليا بفعل كلّ ما وسعه لتصعيد الثورة السلميّة إلى حرب، بل تعمّد في بداياتها اطلاق سلاح سجناء إسلاميّين كان يعلم أنّهم سيضفون على الثورة السوريّة مسحة جهاديّة بمجرّد انضمامهم إليها. وهذا بالتحديد ما فعله قادة ميدانيّون إسلاميّون بالحرب السوريّة كانوا بسجون الأسد أساسًا، منهم على سبيل المثال لا الحصر، زهران علّوش، الاسلامي الذي خرج من سجن صيدنايا الشهير بعفو رئاسي خاصّ عام 2011، لينضمّ فورا الى الجهاديّين ويقود لاحقًا واحدًا من أشهر فصائلهم في سوريا، عنيت "جيش الاسلام". هذا "الجيش"، وسواه من الجهاديّين، حوّل الثورة السوريّة من مساراتها السلميّة الأولى، باتّجاه العمل الجهادي، ما مهّد الطريق لاحقا لتمدّد داعش من العراق باتّجاه سوريا.
مناسبة الحديث عن داعش ما ذكره أمين عام حزب اللّه حسن نصراللّه في خطابه الأخير عن أنّ أميركا جاءت بداعش الى المنطقة، وأنّ السعوديّة دعمتها. لا الجزء الاوّل من الاتّهام صحيح، ولا الثاني. لم يسهّل أمر قيام داعش بقدر ما سهّلته مظلوميّة السنّة في العراق، وسوريا، ولبنان؛ ومن اضطهد السنّة في منطقتنا لا أميركا، ولا السعوديّة. ولكنّ هذا ما لن يقرّ به نصر اللّه، بطبيعة الحال.