لا يُخفى على قارئي تاريخ لبنان الحديث ذاك الصّراع الإثنودينيّ الواضح الذي شكّل أساس الدّيناميكيّة السياسيّة فيه. كما لا يُخفى غياب مفهوم التّعايش بدلالته الحقيقيّة التي تفترض تسامحًا فعليًّا، وتقبّلًا للآخر مهما اختلف ثقافيًّا ودينيًّا وحضاريًّا... ويُستعاض عن التّعايش بمفهومٍ يتطابق مع السّلوكيّات التّمييزيّة التي نشهدها في الجمهوريّة اللّبنانيّة، خصوصا جمهوريّة الطّائف: ألا وهو العيش المشترك. وليس هذا العيش المشترك سوى ابتداع مخيّلةٍ لم تبلغ بعد مستوى القيمة العلمانية الكلّيّة، أعني قيمة التّسامح. فتكون دلالة العيش المشترك انطلاقًا من الاستعمال اليوميّ لها تحمّلَ الآخر المختلف تحمّلًا آنيًّا، وخاليًا من روح المسامحة واحترام التّعدّد الثّقافيّ وغيرها من القيم اللّيبراليّة. لكنّ هذا الخداع للذّات المتمثّل بالعيش المشترك يقابله في السّياق اللّبنانيّ أنموذجٌ تعايشيٌّ يؤكّد إمكانيّة تطوير حسّ مواطنةٍ. بيد أنّ هذه المواطنة محدودةٌ ضمن إطارٍ ثقافيٍّ وحضاريٍّ محضٍ، ولا يمكن تعميمها، مثلما لا يمكن تجريدها. إنّها سياقيّةٌ وتاريخيّةٌ بقدر ما هي معلمنةٌ، أعني التّعايش المسيحيّ-المسيحيّ اللّبنانيّ الأنموذج الرّاقي للتّسامح المعاصر على الرّغم من الاختلافات الدّوغمائيّة (أرثوذكس، وكاثوليك، وبروتستانت) والإثنيّة (سريان موارنة، وأرمن، وروم).
لماذا العيش المشترك لاأخلاقيّ؟
عادةً يُشارُ إلى العيش المشترك على ضوء المفهوم الأروروبيّ الأميركيّ (الغربيّ)، أعني التّعايش "coexistence". لكنّ هذا التّعايش واضحةٌ أسسه، ولا لُبسَ فيها. إذ يشمل معاناه عددًا من القيم مفقودةً في التّنظير اللّبنانيّ للعيش المشترك، منها: التّسامح، واحترام الاختلاف، وتفهّمه، وعدم التّمييز. لذلك لا عجبَ في وجود هوّةٍ شاسعةٍ تفصل المفهومين. فالتّسامح الذي يفترض قبول الآخر بقطع النّظر عن الاختلاف الدّينيّ، والثّقافيّ، والحضاريّ، والامتناع عن فرض هويّةٍ محدّدةٍ عليه. وهذا أمرٌ يتعارض مع التّنظير الإسلاميّ "المعتدل" والسّائد الذي يشرط التّسامح بالهويّة العربيّة الذي يفرضها على المسيحيّين من دون الأخذ بعين الاعتبار ثقافتهم وحضارتهم التي لا يتردّدون في التّعبير عنها بحرّيّةٍ. وقيمة التّسامح مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا باحترام الاختلاف وتفّهمه، وهما قيمتان غائبتانِ إذا لم يُقرنا بالممارسة العمليّة. فاحترام الآخر المختلف لا تعني الإقرار باختلافه فحسب، بل إدراك حقيقة اختلافه، أي المواقف والمنظور والفلسفة التي تعكس رؤيته لنفسه وللآخرين. فيما التّفهّم يعني تقدير هذا الاختلاف عقليًّا وتشاعريًّا "empathetically" بعد إدراك مميّزاته... أمّا عدم التّمييز فيشكّل الرّكن الأساس في الفكر التّعايشيّ، وهو تنظيرٌ محضٌ في ممارسة العيش المشترك، حيث لا يلقى المرء المختلف معاملةً منصفةً بحقّه، بل تغيب الإدانة الواجبة من الجهات المعنيّة عند الأحداث التّمييزيّة، والاعتداءات الطّائفيّة، أو أقلّه لا يكون الرّدّ على مستوى الحدث الخطير الذي عادةً ما ينأى بنفسه عن الواقع، أو يلجأ إلى الخطاب المؤامراتيّ، مثل لوم "أميركا" أو "الصّهيونيّة العالميّة".
إذن تضع هذه الفوارق القيميّة العيش المشترك في مقابل التّعايش، لا مرادفًا له، بل تجعله ضربًا من الإيمان المزيّف، وموقفًا لاأخلاقيًّا يخلو من أيّة فضيلةٍ يمكن التّعويل عليها لبناء مواطنةٍ مفترضةٍ. وربّما يُستحالُ ذلك من دون توليد مفهوم إسلاميّ حديثٍ للتّسامح يتخطّى المنظور القروسطيّ الهرميّ... وفي هذا السّياق نستطيع فهم نجاح التّعايش المسيحيّ-المسيحيّ وفشل نظيره المسيحيّ-الإسلاميّ.
الأنموذج التّعايشيّ المسيحيّ
طبعًا لم يكن تاريخ تفاعل المجتمعات المسيحيّة مع بعضها في لبنان والمشرق ورديًّا، إذ لطالما غلّفت النّزاعات الطّائفيّة والإثنيّة جزءًا كبيرًا من علاقات هذه الجماعات مع بعضها. على سبيل المثال، أدّت صراعات الموارنة واليعاقبة السّريان دورًا رئيسًا في تشكيل الوعي الدّينيّ المارونيّ في جبل لبنان. زِد عليها بعض النّزاعات العسكريّة بين الرّوم والمورانة. وحتمًا استمرّت هذه العلاقات السّلبيّة حتّى القرن التّاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولم تقتصر على خلافاتٍ عقائديّةٍ، بل شملت أحيانًا خلافاتٍ ذات طابعٍ إثنيٍّ، مثل رفض الرّوم الكاثوليك تكريم مار يوحنّا مارون (القدّيس والبطل القوميّ عند الموارنة) نظرًا إلى أنّ التّقليد الرّوميّ لا يشير إلّا إلى أرثوذكسيّة مارون النّاسك السّريانيّ، بينما يعدّ يوحنّا مارون من القائلين بالمشيئة الواحدة. وبقي هذا الخلاف إلى أنْ أصدر البابا بيوس السّابع سنة 1820 مرسومًا يؤكّد قداسة هذا القدّيس المارونيّ نافيًا شبهات الهرطقة (راجع يوسف الدبس، الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤصّل، 1905، ص 104-106). وكذلك انتقلت هذه الصّراعات إلى المهجر، حيث أبدى العديد من الموارنة تخوّفهم من انتقال المهاجرين منهم إلى الطّقس اللّاتينيّ. وأشار الأب بولس سعاده في رسالةٍ له إلى البطريرك الحاج سنة 1898 إلى سيّدةٍ رفعت شكوى"بحقّ قسّ مارونيّ كلّل مارونيّةً على شاب من طائفة الرّوم الأرثوذكس" (ربيعة أبي فاضل، الفكر الدّينيّ في الأدب المهجريّ، ج1، 1992، ص 144، نقلًا عن أرشيف بكركي – ملفّ البطريرك الحاج).
ولا ريبَ أنّ النّظام الهرميّ الطّائفيّ العثمانيّ، فضلًا عن المجازر الطّائفيّة والعنصريّة في القرن التّاسع عشر قد ساهمت إلى حدٍّ كبيرٍ في تقريب الجماعات المسيحيّة، وتوليد وعي مسيحيّ قوميّ تعالى عن الاختلافات المذهبيّة والإثنيّة واتّجه نحو تأسيس أوّل كيانٍ مسحيٍّ ذي إدارةٍ ذاتيّةٍ في المشرق سنة 1861. ومثّلت الإدارة الذّاتيّة في جبل لبنان (أو نظام متصرّفيّة جبل لبنان) نقطة انطلاق نهضةٍ ثقافيّةٍ ثانيةٍ بعد النّهضة السّريانيّة المارونيّة في القرنين السّادس والسّابع عشر، ومرتكز وعي قوميّ عند الإثنيّات المسيحيّة، خصوصًا الرّوم والموارنة. ولا يزال أثر هذا الوعي حاضرًا في تمركز معظم المجتمعات المسيحيّة في المدن والقرى المحيطة من جبل لبنان التّاريخيّ، وتعاضدهم زمن الحرب "الأهليّة"، بل تكثّف ذلك بعد الفرز الطّائفيّ والتّطهير الإثنيّ الذي لحق بالمجتمعات المسيحيّة التي كانت تعيش آمنةً في مناطق ذات أغلبيّة عربيّةٍ إسلاميّةٍ.
علاوةً على ذلك، لعبت الفلسفة المسكونيّة دورًا على المستوى الإكليريكيّ أقلّه في توحيد جهود المسيحيّين نحو الوحدة، واحترام تعبير كلّ جماعةٍ/إثنيّةٍ عن مسيحيّتها، حيث يشمل ذلك الطّقس، واللّغة، والتّقليد... وخيرَ ما يعبّر عن هذا الفكر شيوع الزّيجات المختلطة المسيحيّة بين الأرمن والرّوم والمورانة، وهو ما يعكس تسامحًا دينيًّا كبيرًا يجسّد ما طرحه نظريًّا فلاسفة التّنوير في رسائلهم.
وعمومًا إنّ الصراع عند المسيحيّين أساسه سياسيٌّ، أو الأصحّ غياب الوعي السّياسيّ، وما خلا ذلك تنظيرٌ لا قيمة له (مثل وجود صراعٍ طبقيّ/جغرافيّ مفترضٍ). فالمجتمعات المسيحيّة تعبّر فعليًّا عن روح التّعايش، من دون خداعٍ للذّات، أو طقوس التّكاذب التي يعرف سياسيّو التّوسّع المناطقيّ استغلالها (مثلًا، دعوة رجال دين مسيحيّين ومسلمين إلى حفلٍ حزبيٍّ واستغلال حضورهم الصّوريّ لغاياتٍ بروباغنديّةٍ محضةٍ). وهذا ما يجعله نقيضًا طبيعيًّا للعيش المشترك الإسلاميّ-المسيحيّ الذي لم يكن حلًّا مثاليًّا، بل لا علاقةَ له بالمثاليّة بتاتًا. إنّ العيش المشترك فكرةٌ بريئةٌ أوجدها عقلٌ طفوليٌّ، ودفع ثمنها شعبٌ حرٌّ. وحتمًا لا يزال جيل الشعارات "الوطنيّة" التي انبثقت عن صفقة بشارة الخوري-رياض الصّلح، وجيل قصائد سعيد عقل ومسرحيّات الأخوين رحباني، يدافع لاعقلانيًّا عن العيش المشترك بصفته قيمةً ينفرد فيها لبنان 1920 الفاشل، بينما في الواقع بات شكلًا من أشكال الإيمان المزيّف.