جوزف بوشرعه - الثّنائيّ الشّيعي يلعب الداما، وقادة المسيحيّين يلعبون.

لا تزال المخاطر تهدّد آخر وجود سياسيٍّ وازنٍ لمسحيّي الشّرق الأدنى. لكنّ الفارق بين الأمس واليوم هو وجود نسخٍ أكثر سوءًا وأقل نضجًا في مراكزَ قياديّةٍ حزبيّةٍ ومؤسساتيّة، علمانيّةٍ ودينيّةٍ، مسيحيّةٍ في لبنان. طبعًا لم يتغيّر خطاب كراهية النّصارى، بل استعاد مجده السّابق، كما بلغت الاعتداءات الطّائفيّة جرأةً غير مسبوقةٍ، أمّا الأخطر فهو غياب وعي سياسيٍّ نقديٍّ عند الإثنيّات المسيحيّة، وانتقال المؤسّسات المفترض أنّها تمثّلهم إلى نمط التّفكير الاستهلاكيّ والتّجاريّ. فيما الإقطاع القديم والجديد يتناحر على استقطاب جماهيرَ طمعًا بسلطةٍ ومراكزَ، بل بكيانٍ فَقَدَ الغاية التي نشأ من أجلها، وتاليًا بات بلا قيمةٍ. بينما نجد تخطيطًا استراتيجيًّا، وتفكيرًا عسكريًّا، وتسييسًا ضخمًا للمجتمع العربيّ الشّيعيّ في لبنان، محصّنًا بدعم قوّةٍ إقليميّةٍ، وموجّهًا باندفاعٍ أيديولوجيٍّ واضحٍ.

ملاحظاتٌ أوّليّةٌ على الوعي الشّيعيّ

لا يمكن فصل مسار الوعي القومي المجتمعيّ عند الشّيعة في لبنان عن مسار البنى الاجتماعيّة والسّياسيّة للشّيعة في العالم الإسلاميّ عمومًا. والمقاربة الشّيعيّة التّنقيحيّة للتّاريخ اللّبنانيّ ليست سوى نتيجة تحوّلٍ راديكاليّ في هذا الوعي. وتوضيحًا، ليست المقاربة التّنقيحيّة نقدًا ذاتيًّا للفكر السّياسيّ الشّيعيّ، بل أداة تقويضيّةٍ بروباغنديّةٍ تهدف إلى تفكيك الهويّة السّريانيّة المارونيّة، وهويّات المجتمعات المسيحيّة الأخرى. وتبعًا لذلك يستحال التّوصّل إلى بناء شيءٍ إيجابيٍّ مع هذه العقليّة التّفوّقيّة، فهي لا تقبل إلّا بترضيةٍ "appeasement" (على غرار ترضية القاهرة والطّائف)، أي تنازلاتٍ ستفرغ كيان 1920 من مضمونه شكليًّا، بعد أنْ أنهته الحرب الأهليّة فعليًّا. وحتمًا لا تحلّ المشاكل مع هذا الوعي بعقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ، إنما بانسلاخٍ عنه تماما.

إنّ الفكر التّفوّقيّ الشّيعيّ المتمثّل بغياب التّسامح بمعناه الحديث ينفي إمكانيّة التّعايش، لأنّه يستلزم الإكراهه بالضّرورة، أي لا يرضى بالمسيحيّينَ ولا يتقبّلهم إلّا وفق شروطٍ معيّنةٍ، فيستحقّون عندئذٍ لجامًا على طاعتهم (وهم الذين يُطلق عليهم لفظة "المسيحيّين الشّرفاء" أو "الوطنيّين"). يتمثّل عمليًّا هذا الوعي في السّياق الإسلاميّّ القروسطيّ بسياسة قضم الأراضي، وترهيب المختلفين ثقافيًّا ودينيًّا وحضاريًّا عنه، والاعتداء عليهم (فكِّرْ بالاعتداء على أهالي الحدت وعين الرّمانة)، بالإضافة إلى تكسير ممتلكاتهم (قارن بين تكسير محالّ يهود ألمانيا وتبريراتها آنذاك، أو ما يعرف بليلة الكريستال المكسور "Kristallnacht"، بتكسير ممتلكات المسيحيّين وتبريراتها). فالمسيحيّون في لبنان، وسوريا، والعراق ليسوا مُبغضينَ بلا سببٍ، بل إنّهم مكروهون لاختلافهم العقائديّ والثّقافيّ. وهذه الثّقافة التي يسعى الوعي الشّيعي الرّاديكاليّ إلى استهدافها. بينما يلتهي قادة المسيحيّين بانتخاباتٍ جامعيّةٍ ونقابيّةٍ، وتحتفي مؤسّساتهم التّربويّة والإعلاميّة بالألعاب والتّرفيه والمهرجانات المعيبة التي باتت أفيونًا آخر إلى جانب أفيون مركز رئاسة الجمهوريّة.

أزمة "القائد" عند المسيحيّين

وفي هذا الإطار تتجلّى بوضوحٍ أزمة "القائد" المسيحيّ. فالفكر الإقطاعيّ العشائريّ المسيحيّ لا يزال حاضرًا في الممارسة السّياسيّة الحاليّة، حيث ظهر إقطاعٌ جديدٌ بمقابل القديم. فديناميكيّة السّياسة الدّاخليّة المسيحيّة هو صراع عائلاتٍ على السّلطة، أي صراع على حكم المجتمعات المسيحيّة في لبنان. بيدَ أنّ المفارقة هو التّراجع الدّيمغرافيّ والجغرافيّ للإثنيّات المسيحيّة في لبنان، أي قريبًا سيتصارع الإقطاع على العدم، كالفلاسفة الميتافيزيقيّين. هذه الأزمة الفكريّة عند المسيحيّين هي مظهر من مظاهر غياب الوعي القوميّ، واللّجوء اللاّمعقول إلى هويّاتٍ مصطنعةٍ (كالفينيقيّة، أو القوميّة السّوريّة، أو العربيّة)، فيما يتمّ تجاهل الوقائع الإمبيريقيّة الطّبيعيّة، أعني الهويّة المارونيّة، والرّوميّة، والأرمنيّة. لذلك تتماهى الهويّة السّياسيّة والشّخصيّة بعائلةٍ أو بفردٍ، وتتحوّل إلى عبادة الرّجل القويّ، أو المخلّص الأرضيّ، الشّبيهة بعبادة أنصاف الآلهة التي حاربتها المسيحيّة في العصر الكلاسيكيّ، وعبادة القدّيسين التي واجهتها الكنيسة في القرون الوسطى.

وينتقل هذا الهوس بالقائد إلى تمجيده بعد وفاته، وتبرير أخطائه الأخلاقيّة أو الاستراتيجيّة، وهو ما يسمّيه فويرباخ "عبادة الموتى". وقد أبلى هذا التّفكير المجتمعات المسيحيّة منذ نشوء لبنان سنة 1920، وترسّخ بعد الاستقلال، واتّفاق الخوري-الصّلح والعائلات التي دعمته (مثل آل جميّل وشمعون). والاتّفاق عينه أتى ردًّا على إميل إدّه، أي إنّه نتيجة صراعٍ إقطاعيّ مسيحيّ على السّلطة (ويتّضح الأمر إذا راجعنا أحداث تلك الحقبة، كمنع إميل إدّه من العمل السّياسيّ بعد تحقيق الاستقلال). ونظرًا لغياب الرّوح النّقديّة سيبقى الصّراع محرّكًا ديناميكيّة السّياسة الدّاخليّة المسيحيّة، وهو أمرٌ عرف استغلاله الأحزاب الإسلاميّة المتمثّلة بأوليغارشيّة التّسعينات، وأتقنته الشّيعيّة السّياسيّة (محاولة تقليب الإقطاع القديم على الجديد، مثلًا، محاولة استغلال الكتائب ضدّ التّيّار والقوّات، وحاليًّا استغلال المردة ضدّ الأحزاب المسيحيّة...).

ويحدث كلّ ذلك فيما المسيحيّون يصلّون لوحدة "زعمائهم"، لكنّ الواقع يتطلّب تمرّدًا حقيقيًّا. فالمواقف المحافظة الشّديدة للمؤسّسات الدّينيّة والعلمانيّة المسيحيّة مقابل مجتمعاتٍ مسيّسةٍ ومعاديةٍ أيديولوجيًّا لشعبنا لا يتطلّب قداديسَ، بل أفعالًا. أعني يجب أنْ ينزع المسيحيّون عن أنفسهم هذا الفكر الإقطاعيّ المحافظ والمقاربات الطّوباويّة المضرّة والشّوفينيّة اللّبنانيّة التّافهة، وأنْ ينتقلوا من دون خجلٍ نحو الرّاديكاليّة المطلقة. عليهم أنّ يعتنقوا الرّوح التّجريبيّة المادّيّة، وأنْ يتجاوزوا الحدود المصطنعة، عليهم أنْ يتّصلوا كما اتّصل أسلافهم بإخوتهم في الهويّة والدّين والحضارة في بلاد المشرق من دون تمييزٍ. فنحن لا نحتاج قادةً بل شعبًا واعيًا يتمثّل صوته في مجلسٍ تمثيليٍّ في جبل لبنان، ولا يدخله إلّا المفكّرين الأحرار والمتضلّعين بتاريخ شعبهم وهويّته وحضارته.

إذن لا بدّ من تخطّي الجنسيّة ومشروع لبننة "رافضي لبنان"، أي لبنان التّعدّديّ. فالمفهوم الغربيّ "المسيحيّ" للمواطنة والدّولة والعقد الاجتماعيّ كلّه مختلفٌ عن المفهوم الإسلاميّ له، أقلّه منذ العصر الحديث. فمفهوم الدّولة "الوطنيّة" هو مفهومٌ إسلاميٌّ محضٌ، (مثل مفهوم "الاعتدال")، استُحدث مقابل مفهوم "الأمّة" الذي شكّل أساس التّنظير السّياسيّ الإسلاميّ الحديث. وكلّما سارعنا في إدراك هذه الواقعة، كلّما توضّحت رؤيتنا لأنفسنا ومستقبلنا. إذ سيتبدّد صراع العائلات لأنّ قيمتهم ومكانتهم صادرةٌ عن نمط تفكيرٍ مسيحيّ، فيذوون كما ذوى الإقطاع الأوروبيّ أمام الرّجل المتحرّر، علّنا نبدأ بلعب الشّطرنج فيما غيرنا عازمٌ على لعب الدّاما.