هشام بو ناصيف - لبنان اليوم: عن ثلاث خرافات


الخرافة الأولى الشائعة بلبنان اليوم هي أن بالامكان تبنّي خطاب الممانعة بحجّة دعم القضيّة الفلسطينيّة، دون الانضمام الى الممانعة نفسها. جوهر التفكير الخرافي هو الطلاق مع الواقع، وجماعة مع فلسطين/ضدّ الممانعة (جلّهم من ناشطي واعلاميّي المنظمّات غير الحكوميّة، والمجتمع المدني) ليسوا استثناء. الحقيقة هنا، حقيقتان: السياسة لا تخوضها الشعوب أو الجماعات بصفتها هذه، بل قوى منظّمة تتحرّك باسمها. والمنظّمة التي تتحرّك باسم فلسطين اليوم هي حماس. الحقيقة الثانية أنّ حماس مرتبطة عضويّا بنظام الملالي الايراني الذي تتلقّى منه الدعم العسكري والمالي والسياسي. توقيت عمليّة 7 اكتوبر الارهابيّة ليس مفصولا عن المعركة المفتوحة التي يشنّها نظام الملالي على المملكة العربيّة السعويّة التي كانت اقتربت من توقيع اتّفاقيّة سلام مع اسرائيل، قبل أن تردّها ايران، بواسطة حماس، سنوات الى الوراء. لا يمكن، باسم البعد الانساني للأحداث، التصرّف كأنّ هذه المعطيات غير موجودة، أو غير مهمّة. بالمعطيات الحاليّة، الانضمام الى كورس المزايدين بالمسألة الفلسطينيّة انضمام فعلي الى معسكر ايران. أمّا من لا يرغب لنفسه بهذا التموضع، فالتفكير البديل واضح: لا أولويّة تعلو فوق أولويّة المواجهة مع الملالي وامتداداتهم بالمنطقة. تاليا، كلّ من هو بهذا المحور عدوّ، وقضيّته بالضرورة غير عادلة. تشمل هذه المعادلة بطبيعة الحال قوى كالحوثيّين باليمن، وكتائب حزب اللّه بالعراق، وحزب اللّه بلبنان. ولكنّها تشمل أيضا – وبالأوضاع الحاليّة، أوّلا – حركة حماس بغزّة. الأمور بهذا الوضوح؛ وواحدنا ليس مضطرّا أن يضيّع البوصلة ويفقد عقله لمجرّد سماع كلمات من نوع "فلسطين"؛ أو "العدوّ الصهيوني"؛ أو "العدوان على أمّتنا"؛ أو سائر المعزوفة.

الخرافة الثانية يروّجها عونيّون محرجون يحاججون مع جبران باسيل أن بالامكان أن يكون واحدنا ضدّ وحدة الساحات (أي ضدّ أن تتحرّك جبهة الجنوب دعما لأصدقاء ايران في غزّة)، على أن يؤيّد في آن "سىلاح المقاومة" (أي أن يحتفظ الحزب الخميني بسلاحه من أجل الدفاع عن لبنان، دون أن يتورّط بمعارك حماس). هذا المنطق هراء تامّ. بالحقيقة، وحدة الساحات هي مسوّغ، وعلّة وجود، السلاح الخميني بلبنان. ايديولوجيّا، هذا السلاح مرتبط بهويّة شيعيّة عابرة للحدود (Transnational Shia Identity) والمصلحة الوطنيّة اللبنانيّة آخر همّه. لا يمنع هذا بعض التوليف التكتيكي عند الضرورة، كأن يوقّع الحزب على تفاهم بمار مخايل فيه سفسطائيّة متعلّقة ب"الاصلاح"، و"بناء الدولة"، وكليشيهات مماثلة. ولكن هذا يدخل من باب التقيّة، أي النفاق الذي تمتهنه فرق الغلاة بالشرق، وهي نحل دينيّة متطرّفة تحترف اظهار الشيء، واضمار عكسه. بالحقيقة، مجرّد القبول بسلاح "المقاومة" في لبنان يعني القبول بربط مصير بلادنا بمحورها. هناك، بمعنى آخر، علاقة ضرورة بين السبب (السلاح)، والنتيجة (قدرة ايران على توحيد الساحات بالقوّة، أيّا كانت ارادة قاطنيها من غير الموالين لها). من يرفض النتيجة عليه منطقيّا أن يتصدّى للسبب المؤسّس لها. أمّا ما يفعله اليوم جماعة مع سلاح "المقاومة" وضدّ وحدة الساحات، فهو ما فعلوه دوما: تشويه فهم المسيحيّين لما يدور حولهم، بعزّ حاجتهم لليقظة والفهم.

وأمّا الخرافة الثالثة، فخاصّة بيتامى 14 آذار من الأحزاب المسيحيّة. بعد كلّ ما جرى ويجري، لا يزال هؤلاء مصرّين على طروحات من نوع أنّ الحلّ يبدأ بانتخاب رئيس للجمهوريّة؛ أو أنّ الفدراليّة فكرة عظيمة، ولكنّها بعيدة المنال، فلا بأس تاليا باللامركزيّة؛ أو أنّ التفكير بتغيير النظام لا يصحّ دون موافقة كلّ المكوّنات عليه. بالحقيقة، كلّ واحدة من هذه المسلّمات مثيرة للسخريّة. يوم كان ميشال سليمان رئيسا، لم تكن بعبدا خالية. كيف حلّ هذا أيّ شيء؟ ولا وصول جهاد أزعور للرئاسة، أو أيّ شخص آخر بالحقيقة، سيحلّ أي شيء. ذلك أنّ طبيعة الحلّ لأي مشكلة تتأتّى من طبيعة المشكلة نفسها، وجوهر المشكلة عندنا فشل تجربة الشراكة بين الهويّة المحليّة اللبنانيّة المسيحيّة، والهويّات العابرة للحدود. هل كانت هذه التجربة نجحت لو لم يكن لبنان بالشرق الأوسط، ومحاطا بلاعبين من "طراز" حافظ الأسد، والخميني، وياسر عرفات؟ غالب الظنّ أن لا، بدليل مآلات أمور مسألة اللاجئين بأوروبا. وعلى العموم، هذا السؤال نظري. ذلك أن لبنان بالشرق الأوسط فعلا، والهويّات العابرة للحدود فيه تتفاعل ايجابا مع قوى وتيّارات وأفكار بالمنطقة لا تثير بين المسيحيّين غير الاحتقار. من يزعم أن بالامكان تجاوز هذا الفالق بين حضارتين لم تكنّان يوما كثيرا من الودّ لبعضهما البعض بمجرّد وصول ماروني طموح آخر الى بعبدا يكذب على نفسه، أو على قواعده.

أمّا مقولة انّ الفدراليّة جيّدة، ولكنّها بعيدة المنال، وتاليا يمكن الاستعاضة عنها باللامركزيّة، فتشبه بالظبط حال مصاب بورم سرطاني خبيث، يخاف من العمليّة الجراحيّة الضروريّة لانقاذ حياته، فيقرّر أن لا بأس من الاستعاضة عنها بحبّة بنادول. والحال أنّ حبّة البنادول هذه ليست سيّئة بذاتها؛ ولكنّها تصير كذلك لو تخيّل صاحبنا أنّها بديل عمّا ينبغي القيام به فعلا. والحال، أيضا، أنّ حلّ الدول التي تسكنها شعوب متعدّدة هو واحد من اثنين: 1) امّا الاعتراف لهذه الشعوب بحقّ تقرير المصير عبر السماح بريفيراندوم يعطيها حقّ الانفصال، لو أرادت – فكّر بنموذج اسكوتلاندا/المملكة المتّحدة، مثلا. 2) أو شكل من أشكال الفدراليّة التي يمكن توسيعها، أو تضييقها، حسب الحاجة، ووفق البلدان. اصرار أحزاب قوى 14 آذار المسيحيّة على محاولة احياء منطق 14 آذار، بعد أن سقطت التجربة عمليّا، مؤسف.

يبقى المنطق الغريب الذي يزعم أنّه لا يمكن للمسيحيّين في لبنان طرح ما لا يقبل به الجميع، بالنسبة لمسألة النظام. بالحقيقة، هذا منطق ذمّي بامتياز. الهويّة الشيعيّة العابرة للحدود لا تسأل رأي المسيحيّين عندما تذبح لبنان من الوريد الى الوريد كرمى للوليّ الفقيه. المسيحيّيون ليسوا مجبرين تاليا أن يربطوا مصيرهم بمصير سواهم، سيّما أنّ مسألة وجودهم، ومستقبلهم، لم تكن مرّة حارقة، وملحّة، كما هي اليوم. الخطاب المسيحي تجاه الثنائي الشيعي ينبغي تاليا أن يكون واضحا: امّا فدراليّة، من أجل الجميع، بالطرق السلميّة، وليحكم كلّ مكوّن نفسه كما يريد؛ امّا انفصال، من طرف واحد، بأيّ طريقة ممكنة، سلميّة كانت أم غير سلميّة. المهمّ ألّا يستمرّ الستاتيكو الحالي لعقد آخر، لأنّ ذلك يهدّد بالقضاء على ما تبقّى.