هشام بو ناصيف
في ردّه على الوزير جبران باسيل، أعاد معاون رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي النائب علي حسن خليل تكرار موقف حركة أمل الرافض للّامركزيّة الماليّة. استهول خليل طرح باسيل المؤيّد لها باعتبار أنّ "اللامركزيّة الماليّة تنسف أساس الدولة الموحّدة"، حسبما قال. ومن يدقّق بأرقام الضرائب في لبنان، تحصيلًا وإنفاقًا، يفهم تمامًا أنّ الأسباب المعلنة لموقف أمل من المسألة لا علاقة لها بالأسباب الحقيقيّة.
يعمل رفيقنا في لبنان الفدرالي عصام بو حمدان منذ أشهر على المسألة الضريبيّة تحديدًا. دراسته لم تنته بعد، وهي معدّة للنشر عندما يفرغ منها. ولكنّ الخطوط العريضة صارت واضحة، ومنها ما يلي: 1) تظهر أرقام 2018، أنّ مصدر 39% تقريبًا من الضرائب التي حصّلتها الدولة اللبنانيّة ذلك العام هو محافظة واحدة من المحافظات الخمس، عنيت جبل لبنان. بالمقابل، ساهم الجنوب بحوالي 10% بالمئة من الضرائب، والبقاع بأقلّ من 4%. يعني هذا أنّ ضرائب قضاء المتن الشمالي وحده (25% من إجمالي عائدات الضرائب في لبنان) تكاد توازي ضعفي الضرائب المحصّلة في الجنوب والبقاع حيث معاقل الثنائي حزب اللّه – حركة أمل. 2) بالمقابل، تنقلب الصورة رأسًا على عقب عند البحث في الانفاق. للجنوب حصّة الأسد منه، تليه بيروت، ثمّ الشمال، ثمّ البقاع، وأخيرًا، جبل لبنان. وكما أوضحت الأرقام أعلاه، الضرائب التي يدفعها جبل لبنان تساوي تقريبًا أربع مرّات ضرائب الجنوب. ولكن الانفاق الحكومي في الجنوب ثلاثة أضعاف الإنفاق في جبل لبنان.
معظم ما ذكره الوزير جبران باسيل في كلمته قبل يومين غير دقيق (التعبير ملطّف) خصوصًا لجهة التنصّل من مآلات الأوضاع في لبنان. ولكن ليس كلّ ما قاله يجافي الحقيقة، وتحديدًا ما قاله عن برّي: "يريد أن يملأ 2200 مياوم كهرباء في ملاك يتّسع إلى 700 فقط ... يريد أن يضع 30 حارس أحراج في مركز، ولو ليس هناك أحراج، ولو لا يذهبون إلى العمل". ومنذ انتهت الحرب اللبنانيّة عام 1990، هذا هو ال Modus Operandi الخاصّ ببرّي، للحفاظ على زعامة ضايقها الصعود السريع للمنافس الشيعي، حزب اللّه. ومقابل استخدام الأخير لسرديّة المقاومة والتحرير لتوسيع رقعة النفوذ على حساب حركة أمل، فضلًا طبعًا عن بناء اقتصاد مواز رفدته إيران بمليارات الدولارات على مرّ السنوات، بقي لبرّي شعار تنمية المناطق المحرومة. عنى ذلك عمليًّا استخدام ماليّة الدولة لادخال قطاع وازن من الطائفة الشيعيّة في شبكات الزبائنيّة الخاصّة بأمل، بالتوازي لاستخدام الهويّة الطائفيّة لتثبيت الولاء. تحصيل الحاصل، تاليًا، أن يعارض برّي مسائل حيويّة لمستقبل لبنان، كاللامركزيّة الماليّة، وترشيق القطاع العام، والخصخصة. لن ينشر زعيم أمل بيده غصن الشجرة الذي يجلس عليه.
يبقى أمران جديران بالتوقّف عندهما: من يتابع أخبار حالات الانتحار أو الموت فقرًا التي تكاثرت في لبنان منذ سنتين، يلاحظ أنّ عددًا غير قليل منها يحدث في مناطق نفوذ الثنائي حزب اللّه – حركة أمل. فكّر على سبيل المثال لا الحصر بانتحار المواطن "عامر ياغي"، في ديسمبر الماضي، في حيّ المدينة الصناعيّة، بصور، بعد أن كتب رسالة طلب فيها السماح من والده. أو فكّر بمأساة رولا بحلق، إبنة ال13 ربيعًا، التي توفّيت بديسمبر أيضًا في حيّ السلّم، بعد أن انخسفت الأرض بمنزلها الفقير لتغرق رولا في فجوة مجارير. أن تخرج أموال ضرائب جبل لبنان باتّجاه الجنوب لا يعني أنّها تصرف على فقرائه، بل – تكرارًا– على تثبيت زعامة نخبه، وهذه مسألة مختلفة تمامًا. يبقى، وهنا المسألة الثانية، أنّ علاقة الثنائي أمل – حزب اللّه بجبل لبنان يحرّكها الاستغلال الضريبي والمالي، وتضمنها القدرة على استعمال العنف عقابًا لو تمرّد الجبل على نظام يقهره. بهذا المعنى، تكاد علاقة الثنائي حزب اللّه – حركة أمل بجبل لبنان تكون كولونياليّة. والحال أنّ علاقة الاستغلال هذه، كأيّ علاقة شبيهة أخرى، محال أن تنتج نظامًا شرعيًّا. كلّ ما ينتجه الاستغلال والعنف هو رغبات العنف المضادّ. وفي هذه الجدليّة بالتحديد يكمن جوهر النظام اللبناني المركزي بصفته حربًا أهليّة باردة أحيانًا، وحارّة أحيانًا أخرى، ولكنّها مستمرّة دومًا بوجه أو بآخر.