حنان الترك لا تحبّ الكريسماس؟

هشام بو ناصيف

برز على الساحة الفنيّة العربيّة في الأيّام الأخيرة موقفان لافتان أحدهما منسوب لحنان الترك، الممثلّة المصريّة المعتزلة، وآخر لأدهم نابلسي، المطرب الأردني المعتزل حديثًا. وأمّا الترك، فدعت المسلمين لعدم الاحتفال بعيد الميلاد، باعتبار أنّ مشاركة النصارى بأعيادهم مخالف للاسلام. وقد أثارت تصريحات الترك جدلًا على مواقع التداول الاجتماعي، قبل أن تقول الممثّلة المعتزلة لاحقًا إنّ التصريحات نسبت إليها زورًا. ولم تنجلِ إلى الساعة حقيقة الموضوع. وأمّا نابلسي، فقال إنّه لم يكن يرضي اللّه كمغنّي، وقرّر تاليًا العودة إلى السراط المستقيم، لاسيّما وأنّ اللّه خلقنا لنتفرّغ لعبادته، بحسب ما ذكره الفنّان الأردني في فيديو قصير.

التصريحات المنسوبة للترك، وتصريح نابلسي، تأتي في سياق مسائل عديدة مماثلة تحوّلت بدورها إلى قضايا رأي عام في السنوات الأخيرة. فعندما توفّت الفنّانة اللبنانيّة صباح عام 2014، برز سجال حول ما إذا كان الترحّم على كافرة مقبولًا من وجهة نظرة دينيّة، باعتبار أنّ صباح غير مسلمة. ومن تابع السجالات آنذاك على مواقع التواصل الاجتماعي لاحظ الحجم الوازن للقائلين بعدم جواز الترحّم على الفنّانة صباح، عملًا بسورة التوبة 113، (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم)، إضافةً الى آراء علماء كثر ساقها أصحاب هذا الرأي للتدليل على صوابيّة حجّتهم (إبن باز؛ البخاري؛ إبن عثيمين؛ وسواهم). وقد تكرّر الجدل بشكل حادّ أيضًا العام الماضي مع وفاة لاعب كرة القدم مارادونا، حيث برز مجدّدًا الرأي القائل بعدم جواز الترحّم عليه لكفره (يمكن مراجعة مقالة مثيرة للاهتمام عن الموضوع نشرتها "المدن" في نوفمبر 2020 بعنوان "العالم يبكي مارادونا ... والعرب: هل يجوز الترحّم على كافر؟").

الحدّة الدينيّة الّتي تشي بها الآراء المعترضة على مشاركة "النصارى" أعيادهم، أو الترحّم عليهم، طفت على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل أكثر وضوحًا يوم احترقت كنيسة "نوتردام" في باريس عام 2019. كان صادمًا لكاتب هذه السطور الّذي كرّس وقتًا يومها لمتابعة ردود فعل القرّاء العرب على موقعي "الجزيرة" و"العربيّة" حجم التشفّي الصريح، والتعبير عن السعادة بأنّ كنيسة تحترق. كما كان صادمًا له أثناء كتابة أطروحة الدكتوراه في مصر سماع تعابير من نوع "شفى اللّه مرضى المسلمين"، و "رحم اللّه موتى المسلمين"، بما تحمله من تمييز ديني وطائفي فاضح، حتّى في مسائل كالمرض، أو الموت، في بلد يشكّل المسيحيّون فيه أقليّة كبيرة.

والحال أنّ ظاهرة اعتزال الفنّانين، وخصوصًا الفنّانات، ليست جديدة. ومن نافل القول إنّ اعتزال الفنّ، أو أي عمل آخر، حقّ لصاحبه. بيد أنّ المثير في هذه المسألة تحديدًا هو أنّ الاعتزال يأتي دومًا على خلفيّة أزمة أخلاقيّة تجعل من الفنّ نقيض الدين، ليأتي خيار الاعتزال والتحجّب تعبيرًا عن توبة، وطلب مغفرة من اللّه، وعودة الى الطريق القويم. مثلًا، المغنيّة اللبنانيّة أمل حجازي الّتي تحجّبت وغابت عن الساحة الفنيّة بعد صعود سريع فيها كشفت لاحقًا أنّها عاشت "صراعًا بين الدين والفنّ" طوال مسيرتها في الغناء، قبل أن تتحجّب لاحقًا لأنّها "اختارت السعادة" كما ذكرت. ألا يمكن الجمع بين الفنّ والسعادة، مثلًا؟ الجواب أن لا طبعا في ثقافة المحرّم الديني والطهرانيّة الأخلاقيّة الّتي عبّرت عنها حجازي، وسبقتها إليها فنّانات معروفات دافعن عن خيار الاعتزال والتحجّب من منطلقات مشابهة، مثل شمس البارودي، وشهيرة، ونسرين، وصابرين، وحلا شيحة، وسواهنّ.

وربّ قائل إنّ المسألة لا تستحقّ التوقّف عندها في الزمن اللبناني البائس الّذي نعيش، باعتبار أنّ أولويّاتنا في مكان آخر. ولكنّ المسألة فيها نظر. فمنذ عامين، تطفو على السطح السياسي اللبناني قوى تطرح العلمنة شعارًا للحلّ. لا مشكلة مع العلمنة من ناحية مبدئيّة، طبعًا. ولنضع جانبًا مسألة أنّها ليست الحلّ لتحدّياتنا الأساسيّة خلافًا لما يظنّه دعاتها. يبقى السؤال: غالبيّة اللبنانيّين من المسلمين؛ والمحيط المسلم تحرّكه سجالات من نوع هل يجوز الترحّم على "مشرك"، أو هل يمكن الاحتفال الإجتماعي بالكريسماس، بينما تطرب جموع فيه لأنّ كنيسة في باريس احترقت. أّمّا وأنّ هذا المحيط هو ما هو عليه، فهل يمكن فصل اللبنانيّين المسلمين عنه لدرجة تصبح العلمنة خيارًا واقعيًّا في بلادنا؟ يستحقّ هذا السؤال إجابة بعيدة عن الشعاراتيّة. وسنكون من شاكري الاصدقاء العلمانيّين لو نحصل عليها.