مارون كيروز
إذا استمع المتابع إلى النقاشات الإقتصاديّة في البلاد، خصوصًا بين من يسمّي نفسه "يسار" ومن يتهيّأ له أنّه "يمين"، قد يُخيّل له أنّ موضوع النقاش ليس الإقتصاد اللبناني الحقيقي. يتخوّف "اليمين" من تغيير طبيعة "الإقتصاد الحرّ" في البلد، فيردّ "اليسار" بانتقاد "الليبراليّة المفرطة" و"الأبواب المشرّعة لرأس المال العالمي" الّتي أفقرت الناس. يدعو "اليسار" إلى دور أكبر للدولة في الإقتصاد، فيُصاب "اليمين" بالذعر ويفرط في مديح "المبادرة الفرديّة". "يمين" يتحسّس من أيّ كلام عن طبقات اجتماعيّة يتفاوت تأثّرها بالانهيار الإقتصادي، و"يسار" يشمئزّ من أيّ سرديّة تأخذ في عين الاعتبار الأبعاد الطائفيّة للأزمات ويريد أن يقارب المجتمع ومشاكله كما يتخيّله وليس كما هو في الواقع.
حتى إن وضعنا جانبًا الأسئلة حول مدى صلاحيّة قسمة "يمين-يسار" في عالم اليوم، ومآلات تراجعها في بلدان عديدة أمام انقسامات أخرى، فمن غرائب الأمور أنّ توصيف الإقتصاد الّذي يتشاجر حوله الطرفان قد لا يكون له وجود إلّا في خيالهما المشترك. على سبيل المثال، نصف القوى العاملة في لبنان تعتاش من وظائف عامّة -- دون احتساب جيش المقاولين الّذين يعتمدون على مشاريع عامّة للقسم الأكبر من مداخيلهم. بالمقابل، 80% من فرص العمل الجديدة يوفّرها القطاع الخاص في الصين الشيوعيّة. نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل لا تتعدّى 24%، وهو مستوى أدنى من جميع دول الخليج مثلًا.
حتى قبل الأزمة، كان مصرف لبنان يستحوذ على 40% تقريبًا من الدَين الحكومي (في مخالفة لقانون النقد والتسليف) ومعظم مدخول القطاع المصرفي مصدره إقراض القطاع العام، في غياب تام لأسواق ماليّة فاعلة. أين "الإقتصاد الحر" إذًا، في ظلّ دولة لا تزال تدير عن كثب قطاع الطاقة وبشكل مموّه قطاع الإتصالات، وكيف يتصالح "الإقتصاد الحرّ" مع نظام الوكالات الحصريّة والإيجارات "القديمة"؟ كذلك الأمر، قد يتفاجأ الداعي إلى "حماية الإنتاج المحلّي"، ولسخرية القدر قد يكون هذا الطرح الوحيد الجامع بين طرفي النقاش، إذا عرف أنّ هناك ما لا يقل عن 130 دولة تتمتّع بنسبة استيراد أكبر من نسبة لبنان!
لذلك، على أيّ اقتصاد حرّ يخشى اليمين من دون تجارة جديّة، أو بورصة فاعلة، أو شركة لبنانيّة واحدة بين المئة الكبرى في الإقليم؟ وما مبتغى اليسار أمام دولة فاشلة ومتغوّلة، بعيدًا عن ردحيّات "الإقتصاد المنتج"، فهل ما يحتاجه البلد هو المزيد من الإنتفاخ في دور الدولة؟ طالما أنّ النقاش هو حول اقتصاد افتراضيّ غير موجود، لا عجب أنّ معظم الحلول المطروحة تأتي أيضًا افتراضيّة وأنّ البلاد تدور منذ سنتين في حلقة مفرغة.
البداية إذًا يجب أن تكون من تشخيص سليم: إنّنا نتعامل مع اقتصاد ليبرالي من دون مبادرة فرديّة وخالٍ من الإبتكار، مع اقتصاد رأسمالي خالٍ من الاستثمار والمال بمفهومه الإقتصادي، وفي الوقت ذاته إقتصاد دولة مركزيّة "إشتراكيّة" في معظم جوانبها، وتحديدًا في تغوّل الدولة في الإقتصاد، لكن مع غياب تام لمعيار العدالة الاجتماعيّة وإعادة التوزيع. هو إذًا يجمع أسوأ خصائص التيّارات الإقتصاديّة، في مقابل نموذج الدول الاسكندينافية الّتي نجحت في جمع ديناميكيّة القطاع الخاص والمبادرة الفرديّة مع دولة ذات توجّه إجتماعي ومع أحد أنجح الأنظمة لتقليص الفروقات الطبقيّة.
مع أنّ الشعب اللبناني يجد نفسه في سباق مع الوقت في وجه انهيارٍ اقتصاديٍّ قاتل، إلّا أنّ النقاش الصحّي في الحلول العمليّة ضروري لكي تقوم على أسس صلبة. وفي الحالة اللبنانيّة، لا تناقض فعلي في ما يريده قسم كبير من اليساريّين واليمينيّين، متى تذكّر الفريقين مقولة عرّاب المعجزة الإقتصاديّة الصينية دنغ شاوبنغ: "لا يهمّني إن كان الهرّ أسودًا أو أبيضًا، طالما أنّه يلتقط الفئران". فهل هناك تناقض حقيقي بين الفدراليّة مثلًا، والعدالة الإجتماعيّة؟ أو بين السيادة وضبط الحدود من جهة، وتوفير الخدمات الأساسيّة لجميع المواطنين؟ ألا يمكن المواءمة بين المطالبة بقطاع مصرفي مسؤول (وبمحاسبة المصرفيّين الإنتقائيّين) يحترم زبائنه، مع اقتصادٍ تنافسيٍّ ومندمج في سلاسل الإمداد الإقليميّة والعالميّة؟ لا بل بالعكس، المألفة بين الإثنين ضروريّة للخروج من إحدى كبرى أزمات التاريخ الحديث، وهذه نهضة يصعب أن تحصل بالتسويات والصفقات المعتادة، بل تحتاج إلى دفع شعبي في سبيل سيادات ثلاثة: سيادة الدولة على أراضيها وقراراتها، سيادة الأسرة على لقمة عيشها، وسيادة الإنسان على فكره وجسده وخياراته الفرديّة.