فؤاد مطران
صباح الإثنين، نالت آية صبرا "عقابها" بسبب "استفزازها"، ولو عن غير قصد، مشاعر المتحكّمين بالضاحية الجنوبيّة. فهذه الفتاة أقامت حفلة صغيرة لافتتاح متجرٍ لها، وقد شارك بالحفل راقصان ظهرا بصدرين عاريين، ما اعتبره المتحكّمون بالضاحية بأنّه "لا يليق بدماء الشهداء"، لتستفيق وترى واجهة المتجر محطّمة.
إعتاد الرأي العام اللبناني هذه التصرفات، وأصبح على يقين أنّها لن تتوقّف إلّا بعد تحرير لبنان من الإحتلال الإيراني.
لكنّ مواقف بعض المجموعات "العلمانيّة"، خصوصًا تلك المقرّبة من خطّ الممانعة، غالبًا ما تُصدر تعليقات على أحداث مشابهة، تستحقّ التوقّف عندها والردّ عليها.
فعوض استنكار الأفعال المتطرّفة، يقوم هؤلاء بمهاجمة المطالبين بالفدراليّة، ويردّدون شعارًا باهتًا يعتبر أنّ الفدراليّة "ستكرّس" هيمنة كلّ طائفة على منطقتها و"ستفرض" ثقافتها وطرق عيشها.
قبل الردّ على هذه المغالطات، لا بدّ من الإعتراف بالفعل أنّ لكلّ مجموعة في لبنان ثقافة وعادات وطرق عيش خاصة بها، مختلفة عن المجموعات الأخرى، ويتبنّاها القسم الأكبر من أبنائها. فهذه الحقيقة البديهيّة، تشمل عاملًا بديهيًّا نستند عليه كفدراليّين للمطالبة بتغيير النظام اللبناني، ونسعى في عملنا السياسي أن تتمكّن كلّ مجموعة بالتعبير عن نفسها ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.
لكن هذه الحقيقة المجتمعيّة لم تأتِ نتيجة فرضٍ من الأعلى، بل هي منبثقة من القواعد الشعبيّة والتاريخيّة لدى كلّ طائفة. وليست كما تُصوّر أحيانًا على أنّها هويّات دخيلة وضعها بعض الزعماء للتحكّم بطوائفهم.
فلنقُلها صراحةً: لما كان بإمكان حزب الله أن يوسّع انتشاره داخل الطائفة الشيعيّة إلى هذا الحدّ، لو كان النموذج الإجتماعي الّذي يقدّمه على تناقض تام مع خيارات الأكثريّة الشيعيّة.
بالطبع يمكننا النقاش حول تأثير حزب الله على بيئته، والعلاقة الجدليّة بينه وبينها، وتمكّنه من جرّها نحو التطرّف عوضًا عن بقائها في خطّ محافِظ لكن أكثر اعتدالًا. أمّا من غير الموضوعي اعتبار أنّ الطائفة الشيعيّة كانت لتتبنّى العلمانيّة الفرنسيّة لولا مجيء حزب الله.
ثانيًا، الفدراليّة لا يمكن أن تُطبّق إلّا على أساسٍ ديموقراطي، وإلّا لن تؤول سوى إلى فشل محتّم. ديموقراطيّة فعليّة وراسخة على جميع المستويات من الدولة المركزيّة وصولًا إلى أصغر الوحدات المحليّة.
فحين تقرّر مجموعة معيّنة تطبيق قوانين "محافِظة" من خلال الديموقراطيّة، لا يكون ذلك لا فرضًا ولا هيمنةً. بل تكون هذه الأكثريّة قد مارست حقّها الطبيعي وقرّرت التعبير عن نفسها، بما يتوافق طبعًا مع المعايير الأساسيّة لحقوق الإنسان. ولدى تطبيق الديموقراطيّة، ستتمتّع الأقليّات بحقّ التعبير عن رأيها ومواصلة نضالها لتتوصّل بدورها إلى تغيير القوانين، إذا استطاعت إقناع الأكثريّة.
فإذا كانت المجموعات "العلمانيّة" تعتبر أنّه باستطاعتها إقناع الشعب اللبناني باتّباع قوانين ليبراليّة غير محافِظة وعلمانيّة: فما الضرر إذًا بإقناع كلّ مجموعة على حدة في إطار فدرالي؟ كما أنّ بعض الثقافات في المجتمع اللبناني قريبة جدًّا من مبادئ العلمانيّة، فيما ثقافات أخرى هي على نقيض معها: فلماذا يجب على المجموعات المهيّئة إلى تبنّي العلمانيّة انتظار مجموعات أخرى قد لا تقبل بها بتاتًا؟
وهنا نتكلم عن "العلمانيّة" بمفهومها الصحيح، أي فصل الدين عن الدولة، والتعامل مع الأديان بشكلٍ محايد، وعدم إقرار نصوص تشريعيّة مستوحاة من نصوص دينيّة. فالعلمانيّة ليست مفهومًا مشوّهًا يعني إلغاء الطائفيّة السياسيّة، إذ يجب التفريق بين الطوائف كمجموعات هويّاتيّة والأديان. كما أنّ العلمانيّة ليست مسارًا حتميًّا على الشعوب أن تسلكه: فهذا النهج قد يناسب البعض ولا يناسب البعض الآخر، ولا ضير في ذلك.
شخصيًّا، سأرفع راية العلمانيّة بعد تحقيق الفدراليّة، لكن ليس على مستوى الدولة المركزيّة بل على صعيد الوحدة الفدراليّة الّتي أنتمي إليها. لنبتعد قليلًا عن الرديّات والشعارات... قد تكون الفدراليّة السبيل الوحيد إلى تحقيق علمانيّة في لبنان.