فؤاد مطران
وجّه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان جملة لا تنتهي من المغالطات، أرادها كتابًا مفتوحًا للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، اعتبر فيها أنّ "الحياد حوّل بيروت إلى عاصمة محتلّة بسوق ذئاب" وأنّ "الحياد حين لا يحمي يجب أن ننحاز لحماية البلد".
ليس ضروريًّا أن نعدّد مجدّدا الويلات التي جلبها انحياز حزب الله على اللبنانيين، للردّ على المفتي قبلان، وقد باتت واضحة وضوح الشمس. يعلم اللبنانيّون اليوم أنّ أمّ مشاكلهم هي سلاح الحزب وسياساته التي وضعتنا في مواجهة مع العالم أجمع تقريبا. لكن لا بدّ من إعادة تصويب الغاية خلف المطالبة بالحياد، وهي شديدة البساطة: حقّنا كلبنانيّين أنهكتهم عقود من الصراعات المتناسلة بشيء من استقرار، وقسط من حياة طبيعيّة. الاقليم حولنا مضطرب، وأحوالنا من أحواله. لا نستطيع كدولة صغيرة أن نؤثّر على سياسات إيران، وتركيا، وسائر الأوزان الثقيلة الإقليميّة، دع عنك أن نؤثّر على سياسات الولايات المتّحدة، أو الصين، أو روسيا. نريد، بالمقابل، ألا تظلّ بلادنا مسرحا لتصريف سياسات نفوذ اللاعبين الأقوياء، لأنّها أنهكتنا. هذا كلّ شيء. كثير يا سماحة المفتي؟
بالحقيقة، مبدأ الحياد لا يشكّل بحدّ ذاته إيديولوجيا لأي مجموعة لبنانية لتتبناها كعقيدة راسخة. وبما أنّ المفتي يوجّه انتقاداته دومًا للبطريرك الماروني، لا بدّ من التذكير أنّ الجماعة المارونيّة نفسها لم تكن يومًا محايدة على مرّ التاريخ، بل كان لها علاقاتها مع دول خارجية، شأنها شأن جميع المجموعات الأخرى. وعلى المستوى الشخصي، لست محايدًا: بالحقيقة، من الصعب جدًّا لي، إن لم نقل من السخافة، أن أقف على الحياد إن خُيّرت على سبيل المثال بين نموذج إيران من جهة، والنموذج الليبرالي للديموقراطيّات الغربيّة من جهة أخرى. أختار الأخير بدون تردّد. وأساسًا، كم من غلاة مؤيّدي حزب الله، يختارون الغرب، أو دول الخليج العربي، لا إيران، كوجهة لهم للهجرة أو العلم أو العمل أو السياحة أو الاستشفاء؟ أليس هذا انحيازا مثل انحيازي، ولو لأسباب مختلفة؟ فإذا كانت وجهة الانحياز التي يريدها المفتي لا يستطيع فرضها على كلّ بيئته، فكيف بالحري على باقي مكوّنات الشعب اللبناني؟
كلّ المسألة أنّنا نريد أن نكون وطنًا، لا ساحة. المسألة أيضًا أنّ اللبنانيّين لم يتّفقوا يومًا على محور واحد ينحازون له، لو أرادوا الإنحياز. فرنسا، زمن الانتداب، كانت مقبولة من بعضهم، لا من الجميع. الأمر عينه صحيح بالنسبة إلى نظام عبد الناصر، أو السلاح الفلسطيني، أو نظام الأسد، أو النظام الإيراني. هكذا هي المجتمعات التعدديّة عمومًا: الحياد تجاه محاور الخارج شرط سلامها الداخلي. والحال أنّ تجربة حزب اللّه عندنا تكثّف هذه الحقيقة، ولكنّها بنهاية المطاف ليست مرتبطة بالحزب حصرًا. كلّ تاريخنا المعاصر يفيدنا بما يلي: بقدر ما نبتعد عن الحياد، نقترب من الاحتراب الأهلي.