حنان رحمة
مشكلة اللبنانيّين مع الدولار مزدوجة: من جهة، لا قعر لانهيار عملتهم الوطنيّة تجاه العملة الأميركيّة مع وصول قيمة الدولار الواحد الى 25 ألف ليرة لبنانيّة؛ ومن جهة ثانية، جلّ السلع الأساسيّة الّتي يحتاجها اللبنانيّون مستوردة من الخارج، أو مُنتَجة محليًّا ولكن بمواد أساسيّة مستوردة، ما يؤدّي لارتفاع أسعار الأساسيّات كالخبز، وحليب الأطفال، والدواء، والمحروقات. حاليًّا، بلغ سعر صفيحة البنزين (98 أوكتان: 321,200 ل.ل.؛ 95 أوكتان: 311,400 ل.ل.) والمازوت 321,000 ل.ل. وتتواتر شائعات عن ارتفاع قريب لسعر ربطة الخبز إلى 10,000 ليرة، وهو ما نفته وزارة الاقتصاد. ولكنّ اللبنانيّين تعوّدوا أن تنفي السلطات صحّة أخبار كهذه لفترةٍ، على أن يتضّح لاحقا أنّها كانت دقيقة. ويخشى، مع توجّه مزيد من الشركات الكبرى لاعلان إفلاسها في الأشهر القليلة المقبلة، أن تتفاقم أزمة شحّ الدولار، ويبلغ التضخّم مستويات أكثر خطورةً بعد.
لم تكن الأمور سيّئة دومًا. كانت الليرة بأوجّ قوّتها في الستّينات والسبعينات من القرن الماضي، بحيث لم يتجاوز سعر الدولار الواحد 3 ليرات. بدأ اهتزاز سعر الصرف بعد أن فجّر السلاح الفسلطيني الحرب اللبنانيّة عام 1975، ولكنّ الليرة تجنبّت الانهيار لسنوات عدّة بعد بداية الشقاق الأهلي. تغيّرت الأمور خلال عهد الرئيس السابق أمين الجميّل، وتحديدًا في العام 1987، عندما أصبح سعر الدولار الواحد يساوي 550 ليرة. كان ذلك الانهيار الكبير الأوّل ولعلّه الجذر البعيد للأوضاع الحاليّة. دخلت الليرة مرحلة اضطراب شديد لسنوات بعدها، وراحت قيمتها تتغيّر صعودًا وهبوطًا إلى أن وصلت في العام 1992 إلى 2,880 ليرة مقابل الدولار الواحد. سقطت حكومة الرئيس عمر كرامي آنذاك في أيّار من ذلك العام على وقع الاحتجاجات الشعبيّة المندّدة بالأوضاع الاقتصاديّة. وقيل يومها إنّ الرئيس الراحل الياس الهراوي وحاكم مصرف لبنان ميشال خوري تورّطا، مع قوى سياسيّة فاعلة، بتسعير الأوضاع الماليّة لاسقاط كرامي، وتعبيد طريق رئيس الحكومة السابق الشهيد رفيق الحريري الى السلطة. وأيًّا تكن حقيقة ما جرى، فقد صار الحريري رئيسًا للحكومة عام 1992، وثبّت قيمة العملة اللبنانيّة على سعر 1507 مقابل الدولار، لتستقرّ على هذا المعدّل لنحو عشرين عامًا.
العجز المتزايد في موازنة الدولة كان ثمن الاستقرار النسبي في سعر اللّيرة مقابل الدولار منذ منتصف التسعينات. الإنفاق الهائل، المعطوف على درجة فساد خرافي، فاقم العجز الّذي بات عمليًّا خارج السيطرة منذ سنوات. استسهلت الدولة اللبنانيّة بعد الحرب تمويل إنفاقها من القطاع المصرفي (أي من أموال الأفراد والشركات) عبر الاستدانة منه ورفع الفوائد من أجل استقطاب المزيد من الودائع. واستسهلت المصارف اللبنانيّة من جهتها الاستثمار المفرط بسندات الخزينة سعيًا وراء الربح السريع، وخفّضت بصورة مطردة القروض الّتي تمنحها للقطاع الخاص، ما أضعف قدرته الإنتاجيّة، وقلّص حجم الاقتصاد الحقيقي. وتقدّر أرباح المصارف منذ العام 1992 بـ 25 مليار دولار، أي بأكثر من نصف الدين العام. والحال أنّ النخبة الماليّة في المصارف كانت الشريك المكمّل والضروري للنخبة السياسيّة الّتي قبضت على زمام السلطة منذ عقود. هذه كما تلك مسؤولتان عمّا وصلت اليه أوضاع اللبنانيّين اليوم.
المصيبة حاليًّا أنّ حكومة نجيب ميقاتي الّتي يفترض أن تضع البلاد على طريق التعافي ولدت ميتة. وحتّى قبل أن يعطّل حزب اللّه عملها، كان من الصعب أن يقتنع أحد بقدرتها على تغييرالأوضاع الحاليّة. فمن جهة، القوى السياسيّة المتمثّلة فيها مكوّنات أساس للإستبلشمنت اللبناني الّذي أوصل الأمور الى ما وصلت إليه أساسا؛ ومن جهة ثانية، من المستحيل سياسيًّا أن تسهّل المؤسّسات النقديّة الدوليّة عمل حكومة لا شفافيّة ماليّة في عملها، دع عنك أن تساعدها دول الخليج العربي علمًا أنّ حزب اللّه هو لولبها. أن تكون أزمتنا خانقة لا يلغي أنّها مفتوحة، ولعلّ انهيارات إضافيّة بقيمة عملتنا تكون مسألة وقت لا أكثر.