كي لا تتكرّر المهزلة

هشام بو ناصيف

كان يمكن لنقيب محامي بيروت أن يكون رجل العام. للحرب الّتي يشنّها النظام الإيراني بالواسطة على الشعب اللّبناني وجهٌ قانوني-قضائي. من جهة، كلّ الجهود الّتي يمكن بذلها لتعطيل التحقيق بجريمة المرفأ بذلت فعلًا، بما في ذلك زيارة وفيق صفا الشهيرة إلى قصر العدل. ومن جهة ثانية، كلّ ما رشح عن التعاطي مع غزوة عين الرمّانة يشي بأنّه تمّ على قاعدة يرضى القتيل وليس يرضى القاتل: أولئك الّذين دافعوا عن بيوتهم في السجن، وأبطال الغزوة لا. في مسألة المرفأ، كما في قضيّة عين الرمّانة، كانت الحاجة ماسّة لنقيب محامين قوي يرفع الصوت واضحًا مع اللّبنانيّين، ضدّ جلّاديهم. ملحم خلف خذل المراهنين عليه.

استمعت إليه واقفًا تحت شمس حارقة يوم 4 آب الماضي، مع عشرات آلاف المتظاهرين. كانت الأعداد عالية، والمشاعر قويّة، وكان هو خطيبًا. لم أنتظر منه إشارة هجوم ما، أو ثورة، أو أيّ شيء من هذا، ولكن على الأقلّ كلمة واضحة بعيدة عن العموميّات والتجهيل ضدّ من حاول عرقلة التحقيق من يومه الأوّل. لم يقل شيئًا من هذا القبيل، وهذا سيّئ بما يكفي – ما هو أسوأ عنده هي رطانة من يتوهّم أنّ البلاغة الخطابيّة المفترضة بديل عن غياب الموقف. من يومها لم أعد أنتظر منه شيئًا، علما أنّي لم أكن أنتظر منه الكثير أصلًا. ولا أنتظر الكثير ممّن سيخلفه. هذا المقال ليس عن نقابة المحامين.

هذا المقال عن الإنتخابات النيابيّة القادمة. ستكون مقاطعتها خطأ لأسباب كثيرة لو حدثت؛ وسيكون خطأ أيضًا كمواطنين لا حسابات صغيرة عندهم أن نهدر أصواتنا على من لا يستحقّها، وتحديدًا، على هذا الجيش الصغير من مستعجلي الوصول بصفتهم أبطال "الثورة". للتذكير: ملحم خلف، وسواه، اكتسحوا الانتخابات النقابيّة تحت عباءة 17 تشرين. بدا بسرعة لاحقًا أنّهم مجرّد امتداد نقابي للسيستم اللّبناني. و بحسب الأخير، السياسة فنّ الوصول؛ والوصول يفترض تجنّب الاصطدام بأقوياء اللّعبة. لا مشكلة أن يكون هؤلاء الأقوياء احتلالات أجنبيّة، أو زُمر مسلّحة متحالفة معها. نخترع أيّ شعار لرصف الكلام، ثمّ نحوّل الشهرة إلى منصب. تنتهي الأمور هنا. لا شيء بعد الظهور على الشاشات سوى المزيد منه، وكغاية بذاتها. لا شيء بعد الحكي الفارغ سوى الحكي الفارغ بعد أكثر. لا شيء بعد الرغبة في الوصول إلى منصب، سوى الرغبة في البقاء فيه، بانتظار ما أعلى. هكذا هي "السّياسة" عندنا، وهكذا المنشغلون بها عمومًا.

بعد أشهر، أمامنا خيارات. واحدة منها هي هذه: أن نصوّت بشكل تلقائي لكلّ من يقدّم نفسه أنّه ثوري، أو من يقدمّه لنا محترفو استخدام ورقة 17 تشرين على أنّه كذلك. جرّبنا هؤلاء مرّة، أتوا لنا بملحم خلف نقيبًا "للثورة". مهزلة النقابات، لو تكرّرت بالإنتخابات النيابيّة القادمة، تصير مأساة.