إيلي خطّار
أمّا وقد وصل انهيارنا إلى ما وصل إليه، فقد صار التّفكير بأنصاف الحلول جريمة. جذر المأساة اللّبنانيّة سياسي؛ وحلّها، تاليًا، لا يمكن أن يكون تقنيًّا، بل سياسيًّا بدوره. بشكل أوضح: العامل الأساس وراء تفجير الأوضاع في لبنان هو وقوعه على خطّ صراعات النّفوذ الإقليميّة والدّوليّة، وما يصاحب ذلك من أطماع إقليميّة في بلادنا ظلّت علامة ثابتة بتاريخها الحديث والقديم. الحلّ، تاليًا، يبدأ بتحصين لبنان ضدّ الزّلازل المحيطة به، وأيضًا ضدّ رغبات السّيطرة القديمة–الجديدة على قرارنا الوطني، عبر الحياد. سئمنا (وحقّنا أن نسأم) من انعدام الإستقرار الدّائم عندنا. قناعتنا أنّ النّهوض لا يزال ممكنًا، على الرغم من هول المأساة الحاليّة، وأنّ خطّة النّهوض تسلتزم تكوين مناعة عبر السّيادة المستعادة، الحياد التامّ، ونظام سياسي فدرالي يراعي التّعدّديّة المجتمعيّة، ويضع حدًّا، مع الحياد، لاستيلاد النّزاعات في كلّ حين، وعند كلّ منعطف، أو لدى ظهور أيّ خميني أو عبد النّاصر جديد.
والحال أنّ العام 1967 شكّل منعطفًا هو الجذر الماضي لمصائبنا الحاليّة. فبعد النّكسة ذلك العام، أنشأ الفلسطينيّون فصائلهم المسلّحة الّتي حظي حراكها في لبنان بتعاطف كبير من المسلمين اللّبنانيّين، ولو أنّه قضى على أبسط مقوّمات السّيادة اللّبنانيّة. وما أشبه اليوم بالبارحة حيث أنّ وجود حزب اللّه المسلّح، والدّعم الإيراني العابر حدوده، يمنع الدّولة اللّبنانيّة من إعادة بناء نفسها ككيان سيّد، وصاحب قرار وطني مستقلّ. وبين 1967 واليوم، أزمات متسلسلة، من اتّفاق القاهرة، إلى بداية الحرب، إلى الإطباق السّوري التامّ علينا بعد نهايتها، إلى سقوط الرّئيس رفيق الحريري شهيدًا على مذبح استقلالنا الثّاني سنة 2005. من يومها لا يزال اللّبنانيّون مقسومين بين محور مؤيّد لإيران، وآخر مناهض لسيطرتها على بلادنا. خلفيّة كلّ هذه الأزمات، على تنوّعها، واحدة، عنيت تدخّل الخارج بأمورنا الداخليّة، وعجزنا عن صدّه بسبب انقساماتنا، وهويّات بعضنا العابرة للحدود.
معاناتنا المستمرّة مأساة، بطبيعة الحال. ولكنّ المأساة الأكبر أنّ المحاولات الجديّة لإيجاد حلول جذريّة شبه غائبة، خصوصًا لجهة إهمال الحياد، وهو الشّرط الشارط لخلاصنا. صحيح أنّ "إعلان بعبدا" في عهد الرّئيس السّابق العماد ميشال سليمان أكّد على الحياد، وأنّ البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي عاد ونادى بالحياد كخشبة خلاص من لعبة المحاور المدمّرة للكيان اللبناني. ولكنّ علاقة حزب اللّه العضويّة بإيران، وسلاحه المصوّب على رؤوسنا يعيق ترجمة الحياد عمليًّا، ويبقينا أسرى الصّراعات الإقليميّة. هذا علمًا أنّ الزّعامات الإسلاميّة بشكل عام لا تبدي تجاه الحياد الحماس الّذي يستحقّه.
ومع ذلك، لا بديل عن خوض معركة الحياد اللّبناني، لأنّ مستقبلنا، بغيابه، لن يكون سوى إستعادة لا تنتهي لماضينا غير المستقرّ. ولا بديل أيضًا عن خوض معركة سيادة الدولة التامّة على كامل أراضيها، وحلّ جميع التنظيمات المسلّحة مهما تعدّدت وتنوّعت تسمياتها وحصر السّلاح بالقوى الشرعية اللّبنانيّة. المؤسف أنّ هذا المنطق السّيادي طالما جوبه بالتّخوين من قِبَل اليسار اللّبناني (قبل الحرب)، وحزب اللّه (أثناءها وبعدها)، باعتبار أنّ التمسّك بالسّيادة والحياد صنو "الإنعزال"، و"التقوقع"، و"العنصريّة اللبنانيّة"، وتفكير "اليمين المسيحي"، وسائر الكليشيهات الّتي كانت لتكون مثيرة للضّحك لولا أنّ أحوالنا مثيرة للأسى. الحقيقية الّتي لا لبس فيها أنّ محدوديّة واقعنا الديموغرافي والمالي والعسكري والإقتصادي اللّبناني لا يسمح بإدخال لبنان في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل ولا قدرة له على احتمال تبعاتها. الحقيقة الأخرى أنّ إدخال لبنان بلعبة المحاور لم يَقُد مرّة واحدة إلى غير الإستقطاب الدّاخلي والحرب الأهليّة.
من جهة أخرى، لم يعد من الجائز الإستمرار بسياسة الإنكار والتّعامي عن عجز النّظام السّياسي الحالي وحالة الموت السّريري الّذي وصل إليه. كما لم يعد من الجائز الإصرار على التّعامي عن الحقيقة التّعدّديّة للمجتمع اللّبناني، ولا عن معطى بديهي هو أنّ هذه التّعدّديّة غير قابلة للإنصهار القسري. بصراحة ووضوح، آن أوان استبدال النّظام المركزي المتهالك بلامركزيّة سياسيّة وإداريّة وماليّة، أي بنظام فدرالي يحترم هويّاتنا المتنوّعة، ويسمح بتوزيع عادل للثّروة، وتنمية المناطق البعيدة عن بيروت، ويقوّي الناخب اللّبناني وحقّه بمحاسبة النّخب الحاكمة. ولنا في تجربة أرقى دول العالم مع الفدراليّة خير مثال على نجاح هذا النّظام، وهذا ليس بكثيرٍ على شعبٍ عانى الأمرّين منذ عقود، ولا يزال.